قبل إعدام "تنظيم الدولة"، المعروف بـ "
داعش" الصحافي الأميركي جيمس فولي الشهر الماضي، أرسل لعائلته رسالة بالبريد الإلكتروني؛ يقول فيها إنه مستعد لعقد صفقة تبادل أسرى وإطلاق سراح "مسلمين معتقلين حاليا" لدى الولايات المتحدة، وذكر اسم
عافية صديقي تحديدا.
وبعد أسبوعين من مقتله أعاد "داعش" الكرة، وقال إنه مستعد لمبادلة ستيفن سوتلوف بها، لكن لم يأت جواب من واشنطن وقتل الصحافي.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يذكر فيها اسم عافية صديقي، فقد حاولت
طالبان مبادلتها، وكذا جماعات جهادية أخرى. فلماذا كل هذا التركيز عليها ومن هي عافية صديقي أو "السيدة
القاعدة" كما تعرف في دوائر مكافحة الإرهاب الأميركية؟.
تجيب الصحافية المعروفة جانين دي جيوفاني في تقرير مطول نشرته مجلة "نيوزويك" قائلة: "إن صديقي هي الطبيبة المتخصصة في مجال علم الدماغ والأعصاب، التي حكمت عليها محكمة فدرالية في مانهاتن عام 2010 بالسجن مدة 86 عاما، بتهمة محاولة قتل جنود أميركيين أثناء اعتقالها في أفغانستان".
ويضيف التقرير بأن العالمة، التي تلقت دراستها في معهد أم أي تي في ماساشوسيتس الشهير في أميركا وجامعة برانديز، ما تزال تنتظر قرار محكمة في استئناف الحكم، ومحتجزة في وحدة خاصة، بسجن عالي الأمنية وقاسٍ، في كارسويل بولاية تكساس.
ونفت صديقي كل التهم التي وجهت لها أثناء المحكمة، والتي شملت اتهامها بالتعاطف مع القاعدة، ومساعدة زعيمها أسامة بن لادن، ومحاولة اغتيال جنود أميركيين، وحيازة أسلحة ومتفجرات، حسب ما أورده التقرير.
وناقش محامي الادعاء بنجاح عام 2008 أن صديقي أمسكت بندقية جندي أميركي "أم-4"، عندما كانت معتقلة في سجن غزني في أفغانستان وبدأت بإطلاق النار. وزعم شاهد عيان أنها بدأت تصرخ وتقول "سأقتلكم يا أولاد الحرام" و "الموت لأميركا"، وفق ما ذكرته المجلة.
وتقول محاميتها تينا أم فوستر أنه لا توجد أدلة تربط عافية بالجريمة "لا توجد بصمات ولا رصاص".
وبحسب رواية الاتهام أخطأت عافية هدفها، وأطلق ضابط النار عليها مرتين، وأصابها في بطنها إصابات خطيرة، حيث نقلت بمروحية عسكرية لقاعدة باغرام العسكرية قرب كابول. وكانت في حالة من النقاهة وتتعافى من جراحها عندما سلمتها الحكومة الأفغانية في 4 آب/ أغسطس ونقلت للولايات المتحدة. وبعد شهر من وصولها وجهت لها اتهامات وأدينت.
وتتابع المحامية أنها عندما ظهرت في محكمة مانهاتن عام 2010 طلبت استبعاد أي شخص من أصول يهودية من هيئة المحلفين. وقالت للقاضي ريتشاد بيرمان "إن كانوا صهاينة أو إسرائيليين فلن يرحموني"، ولكن القاضي طلب منها مغادرة القاعة بسبب انفعالها المستمر "يجب استبعادهم إن أردت تحقيق العدل.. الحكم صادر من إسرائيل وليس أميركا.. استطيع الشهادة ولدي إثبات". وردت على شهادة ضابط قائلة "كلام فارغ، أنت تكذب".
لوردات يدافعون عنها
ويقول فريق دفاعها لمجلة "نيوزويك" إن الأدلة غير متوفرة لإدانتها، لكن القرار صدر سريعا. وتقول واحدة من فريق دفاعها في ذلك الوقت إيلين شارب إن الأدلة لم تكن متوفرة وشهادات الشهود كانت لا علاقة لها بالجريمة "حسب رأيي كان هذا الحكم مبنيا على الخوف لا الحقيقة".
ووصف أربعة برلمانيين بريطانيين -لورد أحمد ولورد شيخ ولورد باتيل والنائب محمد سروار- الحكم بأنه واحد من أخطاء العدالة، وطالبوا بإطلاق سراحها.
وتذكر المجلة أنه في رسالة للرئيس باراك أوباما أشاروا لغياب الأدلة التي تربط صديقي بالسلاح، الذي اتهمت باستخدامه لإطلاق النار. وتبنت جمعية الدفاع عن السجناء البريطانية "ريبريف" قضيتها وكذا لاعب الكريكيت الدولي الباكستاني والسياسي الحالي عمران خان، ووصفها أحد محاميها السابقين بأنها "الضحية الكبرى لوجه أميركا المظلم".
وكانت هناك تقارير مثل ذلك الذي بثه تلفزيون إيراني، وجاء فيه أن الولايات المتحدة وافقت على ترحيلها بناء على صفقة تبادل أسرى، لكن واشنطن رفضت التعليق عليه.
ونقلت المجلة عن شقيقتها فوزية، وهي خبيرة أعصاب تخرجت من جامعة هارفارد وتعمل في كراتشي، قولها إن تقارير مثل هذه تزيد من آمالهم، لكن عضوا في فريق الدفاع عنها روبرت بويل قال إنه ليس واعيا بتطورات في قضيتها.
قصة غامضة
ويرى التقرير أنه حتى ولو رحلت عافية لباكستان في النهاية، فلن يكشف عن حقيقة ما حدث لها.
فقد نشأت صديقي في مدينة كراتشي الواقعة على بحر العرب، والتي تعتبر قريبة من الحدود الأفغانية والموانئ الإيرانية ودول الخليج، ولهذا السبب كانت مركزا للنشاطات المرتبطة بالقاعدة.
ولكن عافية تنتمي لعائلة من الطبقة الوسطى العليا، فقد عاشت في بيت كبير في منطقة غولشان إقبال، وكان والدها يعمل طبيبا، ووالدتها ربة بيت.
وفي هذا البيت التقت فوزية حيث تعيش مع ما تبقى من عائلتها ومن بقي من عائلة شقيقتها احمد ومريم، أما الأصغر سليمان فيعتقد أنه توفي عندما اختطفتها المخابرات الباكستانية عام 2003. ومن بين الصور المعلقة على جدران البيت صورة عافية وهي تتبسم في حفل تخرجها، وبطاقة تطالب بالعدالة لها "حلم لينكولن، العدل للجميع" "فلماذا حرمت منه عافية". وتتذكر فوزية شقيقتها "بالطفلة الرقيقة التي لا تستطيع حتى إيذاء نملة"، حسب تقرير المجلة.
في أميركا
يضيف التقرير أنه عندما هاجر شقيقها محمد -وهو طبيب أطفال- إلى تكساس، تبعته لإكمال دراستها، حيث درست في جامعة هيوستون، وبعدها انتقلت لمعهد "أم أي تي" لدراسة البيولوجيا وقدمت أطروحتها في جامعة برانديز في مجال علم الأعصاب. ويتذكرها زملاؤها وأساتذتها بالطالبة المجتهدة والهادئة والورعة. وفي هذه الفترة بدأت تهتم بالنشاط الإسلامي.
وعندما سئل أساتذتها عن دراستها قالوا إن جهدها الأكاديمي تركز على كيفية محاكاة الإنسان لأخيه الإنسان. وقال بول دي زيو لمجلة بوسطن بعد اعتقالها "لا أعرف كيف يمكن تطبيقه على أي شيء". و"وصفها العقل المدبر أو أي شيء لم أر ما يدل على هذا".
ويورد التقرير أنها عندما أنهت دراستها الجامعية تزوجت من محمد أمجد خان، طبيب من كراتشي، كان يدرس في بوسطن حيث أكمل تخصصه في مجال التخدير. وعاشا مع ابنيهما في الطابق العشرين من بناية حديثة قرب المستشفى حيث كان يعمل. ووصف الجيران العائلة بالهادئة والزوجة بالورعة. ويقول عمر فاروق إمام المسجد القريب من العمارة "كانت فتاة أميركية وأختا طيبة".
ويتابع أنها عملت في المجال الخيري لخدمة المجتمع المسلم، وجمعت تبرعات لضحايا الحرب في البوسنة والشيشان. وتقول شقيقتها: كانت ناشطة بالمعنى الحقيقي للكلمة "كانت تجمع التبرعات للنساء الكبيرات في العمر ولبناء المتنزهات وللاجئين البوسنيين".
في بداية عام 2001 كان مكتب التحقيقات الفدرالي يراقب نشاطات خان وصديقي وتبرعاتهما للجمعيات الإسلامية، كما رصد عملية شراء على الإنترنت "ستر واقية- درع" ومناظير ليلية. وتقول محاميتها إن هذه المواد تم شراؤها لخان؛ لاستخدامها في رحلات الصيد.
العودة والطلاق
وبسبب الأجواء الصعبة في الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد 11/ سبتمر، عادت العائلة لباكستان. وفي كراتشي أنجبت طفلها الثالث "سليمان"، لكن الزوجين انفصلا، ولاحقا أخبر خان صحيفة "الغارديان" أن عافية متشددة جدا و"مليئة بالحماس للجهاد".
وفي مقابلة مع المجلة قال خان، الذي ما يزال يعمل طبيبا، وملتزم بلحية، أكد أنه ليس متطرفا وأن زوجته هي التي أصرت على الرحيل من أميركا، وأصرت على الذهاب لأفغانستان مع بداية العملية الأميركية هناك، حيث اتهمته بأنه لا يريد الجهاد ولهذا انفصلا.
وزعم خان أن صديقي احتفظت بعنوان بريدي في الولايات المتحدة، كي يستخدمه ناشطو القاعدة، وهو اتهام ترفضه العائلة وتصف خان بالزوج الذي أساء لزوجته، ويريد الانتقام لأنها تركته. وتقول فوستر: "ويريد الأطفال أيضا" و"لهذا يقول أي شيء".
حادث اختطاف
بعد الطلاق عادت عافية للبيت للعيش مع شقيقتها ووالدتها. وآخر مرة شوهدت فيها كانت في ربيع 2003، حيث كانت تضع أبناءها الثلاثة في السيارة في الطريق لمطار كراتشي لزيارة قريبة لها في إسلام أباد، حيث اعترضت في الطريق.
يقول المدافعون عن صديقي إن اختفاءها مرتبط بالقبض على خالد شيخ محمد، الذي يعتبر العقل المدبر لهجمات أيلول/ سبتمبر، في 1 آذار/ مارس 2003، فيما ربطت صحيفة "الغارديان" بينها وبين الشيخ محمد؛ لأنها تزوجت ابن أخيه. ويقال إنه ذكر اسمها في واحدة من حالات التعذيب لكن محاميتها فوستر تنفي كل هذا، بحسب التقرير.
ويشير التقرير إلى أنه عندما تتحدث فوزية عن حادث اختفاء شقيقتها تشعر بالألم، حيث تقول إن رجلين على دراجتين ناريتين أوقفاها، وقالا لأمها إنها اعتقلت ولن يحدث لها أي ضرر. ولم يسمع عنها أي شيء إلا في عام 2008.
سنوات الضياع
ويقول المدافعون عنها للمجلة إنها تعرضت لعملية ترحيل قسري، حيث نقلتها المخابرات الباكستانية إلى سجن سري في الباكستان وأفغانستان، وتعرضت للتحقيق والانتهاك.
ويضيف التقرير أنه بعد ذلك قررت عائلتها توكيل فوستر للدفاع عنها، لأنها رافعت عن معتقلين سابقين في باغرام، ولهذا فهي تفهم عمل وكالة الاستخبارات الباكستانية. وفي الوقت الذي قالت فيه تقارير إن فريق دفاعها الأول رفض لكونهم يهودا، إلا أن فوستر ترى السبب هو أن الحكومة الباكستانية عينتهم، ولهذا لن يحققوا في أي شيء يدين الدولة ويورطها فيما تعرضت له عافية.
وبحسب فوستر فقد تعرضت موكلتها في الفترة ما بين 2003- 2008 لتحقيق في أكثر من سجن سري، وعادة ما خدرت أثناء عمليات النقل.
ماذا حدث؟
تقول محاميتها إن صديقي وصلت في 17 تموز/ يوليو 2008 لغزني بالحافلة، ومعها حقيبة حمّلها إياها السجانون، وفيها مواد تدينها.
وترى فوستر أن الخطة كانت إظهارها بمظهر الانتحارية، وضعت أمام قصر الحاكم حيث سيتم إطلاق النار عليها وقتلها، وبهذه الطريقة تحل مشكلة المخابرات الباكستانية أو "أي أس أي". وفي غزني أعطيت علب كريم "نيفيا" ولكنها تحتوي على مادة جيلاتين.
وتقول فوستر إن السجانين هددوها باغتصاب ابنتها إن لم تكتب أسماء معالم نيويورك، وهي المواد التي تم العثور عليها معها عندما ألقي القبض عليها، وفق ما جاء في التقرير.
ويشير التقرير لرفض فوستر فكرة قيام عافية بسحب بندقية جندي أميركي وإطلاق النار منها. ما هو صحيح هو أن موكلتها أطلق عليها النار ونقلت لباغرام ومنها للولايات المتحدة فيما يشبه الترحيل غير القانوني.
رواية أميركا
يقول المحققون الأميركيون إن عافية في السنوات التي اختفت فيها كانت هاربة تخطط هجمات لابن لادن. وفي عام 2004 اعتبرها جون أشكروفوت وزير العدل الأميركي، واحدة من بين سبعة ناشطين مطلوبين، ووصفها "بالخطيرة والمسلحة"، كما ذكر في التقرير.
وبناء على هذه الرواية اعتقلت الشرطة الأفغانية عافية في 17 تموز/ يوليو، وهي تحمل وثائق لإنتاج "قنبلة قذرة" وقائمة لمعالم نيويورك، وعلب "نيفيا" محشوة بمادة سيانيد الصوديوم. وعندما حضر أف بي أي والجنود للتحقيق معها كانت وراء ستارة صفراء وعندها سحبت بندقية جندي وأخذت تصرخ وتطلق النار.
وبحسب تقارير المحكمة فقد ربطت بسرير، وكانت تحصل على الماء والطعام ولديها زر لكبسه حالة احتاجت مساعدة، وعين عليها حارسة لمدة ثماني ساعات في اليوم، كانت تتحدث معها، ولم تتعاف من جراحها بعد، وما تزال تعاني تم ترحيلها للولايات المتحدة.
في البداية تم تقييمها من قبل محللة نفسية اسمها ليزلي باورز وإن كانت قادرة على الظهور أمام المحكمة، ووجدت أنها ليست في حالة جيدة؛ نظرا لحالات الهلوسة التي تعتريها. ومن ثم أعادت باورز التقييم وقالت إن صديقي "تتمارض لتجنب الملاحقة القضائية".
الزواج الثاني
وماذا عن الزواج الثاني الذي يربطها بخالد الشيخ محمد، المعتقل الآن في غوانتانامو. هذه القصة جاءت من "الغارديان" التي تقول إنها حققت فيها في الباكستان عام 2010 قبل محاكمتها ووجدت أن عافية تزوجت من ابن أخ خالد الشيخ محمد، أمان البلوشي في حفلة زفاف خاصة. وتقول الصحيفة إن الزفاف أكدته المخابرات الباكستانية والأميركية والملفات التي أكدتها صديقي بنفسها لـ"أف بي أي".
وتنفي عائلتها ومحاموها والمدافعون عنها القصة. وتقول فوزية "لم تتزوج مرة أخرى"، "فهي لم تكد تكمل العدة -بعد الطلاق- عندما اعتقلت" واختفت، كما يؤكد التقرير.
رمز دولي
تحولت صديقي أثناء وبعد الحكم عليها لشخصية أو بطلة ودافعت عنها يوفين رديلي الصحافية البريطانية، التي اعتقلتها حركة طالبان لفترة قصيرة ومن ثم اعتنقت الإسلام.
وتصف ريدلي المكانة التي احتلتها صديقي في العالم الإسلامي في مرحلة ما بعد 11/ سبتمبر، كرمز لما تعرض له المسلمون من تحيزات وعنصرية. ونقلت "الغارديان" عن ريدلي قولها "الناس غاضبون من الإمبريالية الأميركية والتسيد".
ويرى ماوري سالاخان من مؤسسة "سلام عبر العدل" في ميرلاند الأميركية أنه متأكد من براءتها.
وتتساءل المجلة "لكن إن كانت بريئة فلماذا تريد الجماعات الإرهابية الخطيرة مبادلتها؟".
وهذا بالنسبة لسالاخان سهل الإجابة عليه "فقد أصبحت ترمز لكل ما هو خطأ في الحرب على الإرهاب وأصبحت رمزا دوليا" و"ما هو غير واضح إن كانت هذه الجماعات تفعل هذا بصدق لأنها إمرأة مسلمة معتقلة في ظروف تنتهك القانون الدولي والدستور الأميركي".
ويضيف سالاخان للمجلة: إن القاعدة ليست وحدها من يطالب بإطلاق سراحها، بل ووزير العدل الأميركي السابق رامزي كلارك.
وتقول فوستر "حتى تفمهي السبب الذي يجعل (داعش) وغيرها من الجماعات مبادلتها، عليك أن تفهمي كم تتمتع بشعبية في باكستان"، ولأنها رمز كبير فيحاول "داعش" وغيره استغلال الأمر.
وتقول فوزية إن العرض الذي اقترحه "داعش"، والمتعلق بشقيقتها "غريب وعجيب، إنهم يريدون استثمار الموضوع، أين كانوا عندما كانت عافية مفقودة كل هذه السنين، إنهم يسيئون لسمعة عافية، وهم يتحدثون عن المبادلة والفدية". وفق ما أورده التقرير.
وبحسب سالاخان فحالة عافية في السجن ليست جيدة -عقليا أو جسديا- ولا تعامل كما تعامل بقية السجينات. وتقول فوستر للمجلة إن عافية أحيانا في السجن الانفرادي لـ 23 ساعة في اليوم، ولا تستطيع التحدث مع عائلتها، وتتعرض للضرب من بقية السجينات، وأصبحت نحيفة وصغيرة الحجم "مثل فأرة صغيرة" وهي "في هذا المكان مع نساء مجرمات".