لا أجد مبرراً للاستمرار في التقليد القديم، الذي يتمثل في "الصلاة الرسمية"، عندما يصبح مطلوباً من رئيس الدولة في
مصر، أن يصلي العيدين و"الجمعة اليتيمة" ليتم نقل الصلاة على الهواء مباشرة، مع وجود عبد الفتاح
السيسي، الذي قام بإحياء شعيرة "صلاة الخوف"!.
رويداً، رويداً فإن عبد السيسي يتحلل من هذا التقليد المتوارث، فلم يشارك في صلاة آخر جمعة من رمضان هذا العام، وإن استمر في صلاة العيدين رسمياً، وفي كل مرة يغيب المصلون، ويحضر رجال الأمن، في مشهد لا تخطئ العين دلالته!.
قبل لحظات من كتابة هذه السطور، انتهت صلاة العيد، والتي تابعتها تلفزيونيا، منذ البداية وقبل الانتقال لإذاعة خارجية لنقل وقائعها، من مسجد لم يعرف عنه أنه مكان لصلاة رسمية. ويبدو أنه في حالة عبد الفتاح السيسي يقع الاختيار على المسجد في اللحظة الأخيرة، ولا يعلن عنه، لدواعي أمنية، ومن رجل يتملكه الهاجس الأمني، على نحو تفوق على هذا الهاجس لدى المخلوع حسني مبارك، الذي كان يشعر بالخوف من الجماهير منذ أن شاهد
السادات مضرجاً بدمائه، على يد بعض ضباط الجيش من الرتب الصغيرة وفي عرض عسكري.
وبالرغم من ذلك فإن المشاهد لعملية نقل الصلوات الرسمية لم يكن يشعر في عهد مبارك بالوجود الأمني المبالغ فيه، لكن في حالة عبد الفتاح السيسي فقد كان هذا الوجود طاغياً، والمصلون حليقي الشعر، وإن اختلفت أزيائهم، ما بين قميص، وبذلة، ومن مراحل سنية مختلفة، فمنهم الضباط ومنهم طلاب الكليات العسكرية، مع قليل من المصلين، الذين ربما اعتادوا على الصلاة في مسجد "السيدة صفية" بمصر الجديدة!.
عيون المصلين في منتصف رءوسهم، وخطيب العيد يذكرنا بالحديث الشريف الذي يقول ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها. ولا أظن مع حالة الهلع هذه قد عقل كثير من هؤلاء شيئاً من الصلاة أو الخطبة، فلكل منهم شأن يغنيه!.
فوق المسجد، الذي يبدو أنه بعيد نسبياً عن المربع السكني للمنطقة، كانت صورة الحراس جلية عندما تنتقل الكاميرا للخارج، وفي مدخل المسجد ظهر الحراس، الذين لم يخفوا مهمتهم وهم بالداخل بين المصلين، وبعض الجالسين يضع سماعات في الأذن كاشفة عن الدور والمهمة.
لقد تم توفير "ممراً أمناً" لدخول السيسي يجلس علي جانبيه شباب حليق الرأس، قلت في "عقل بالى" إنهم يحتاطون لأي مفاجأة فلو جلس غريب لربما أوقف السيسي ليتحدث معه، وربما جذبه من ساقه، وهم لا يريدون ترك الأمور لأي احتمال. وهذه المبالغة في الاحتياطات الأمنية، هي التي دفعتهم لعدم نقل خطابه من جامعة القاهرة على الهواء مباشرة، مع أن كل الحاضرين تم اختيارهم "على الفرازة"، ولأن الشباب ليس مضمونا فقد تم تغييب الطلاب عدا الـ "27" المكرمين. وكان لافتاً أن لقاء في الجامعة لابد وان يكون عن المستقبل، لكن كل الحاضرين تقريباً سبق لهم الموت قبل ذلك، وبعضهم في مرحلة عذاب القبر!.
في أواخر حكمه وعندما كان مبارك يخطب في جامعة القاهرة، قاطعة شاب معترضاً، وتم استيعاب الموقف، ومبارك رجل ضحل، وليس مثل السادات مثلاً الذي كان يتمتع بسرعة بديهة، تمكنه من التعامل مع المواقف السابقة، ومع ذلك فالمخلوع بجانب السيسي يعدو بليغاً أكثر من الفلاح "الفلاح الفصيح"!.
وفي إحدى خطبه حمل السادات علي المرشد العام لجماعة الإخوان الراحل عمر التلمساني، واتهمه بالتنسيق مع الشيوعيين ضده، وبدا الأمر وشاية، وقاطعه التلمساني: " لو أن أحداً غيرك ظلمني لشكوته لك، ألا وأنك أنت من ظلمتني فإني أشكوك لله".. وارتفع صوت السادات: "اسحب دعواك يا عمر". ليرد عليه عمر: "لقد شكوتك لعادل لا يظلم". وجاء صوت السادات متهجداً: "ولكني امرؤ يخشي الله". لينتهي الحوار على تلقائيته علي قاعدة: "لا غالب ولا مغلوب".
لك أن تتصور أن مواجهة كهذه جرت مع مبارك، أو مع السيسي، الذي تعرض عليه الأسئلة قبل طرحها عليه ليطالعها في البدء ثم تكون ردوده عليها: كلمات هائمة في الهواء الطلق، وعبارات مفككة، وجمل تشبه الكلمات المتقاطعة، ليصبح المعنى في بطن السيسي.
في عيد الفطر، كان كبار رجال دولة السيسي ومن شيخ الأزهر، إلى رئيس الوزراء، إلى وزيري الدفاع والأوقاف إلى المفتي بداخل المسجد عندما حضر السيسي متأخراً.. وإن لم تخن الذاكرة فإن مفتي كلا من السيسي ومبارك كان حاضراً أيضاً، وأقصد به الدكتور على جمعة، الذي يخطب في هذه المناسبات الرسمية التي يحضرها السيسي. اليوم كان الكبار في انتظاره في مدخل المسجد، ولم يحضر المفتي الحالي، أو السابق ،أو وزير الأوقاف الذي يترأس البعثة الرسمية للحج.. يقولون إن ثلث أعضاء الحكومة يؤدون فريضة الحج هذا العام.
بجوار شيخ الأزهر كان يقف شيخ معمم وملتحي، صافح السيسي ممتناً، وتمكنت من معرفته، إنه ثاني وزير أوقاف في عهد مبارك، بعد الشيخ جاد الحق على جاد الحق، الذي صار شيخاً للأزهر، خلفاً للشيخ عبد الرحمن بيصار، وهو الدكتور الأحمدي أبو النور، الذي كان ضمن الفريق الذي قام على عاتقه برنامج "ندوة للرأي"، بالتلفزيون المصري والذي كان يقدمه الإعلامي الراحل حلمي البلك.
وكان يذهب للسجون، لمناظرة أعضاء الجماعات الإسلامية، وكان البعض يبالغ في المهمة فيستأسد على هؤلاء المسجونين، لكن أبو النور والشهادة لله، كان يحاول تبني صيغة الحوار العلمي. وهناك من العلماء من رفض من حيث المبدأ المشاركة في برنامج يحاور أسرى مثل الشيخ صلاح أبو إسماعيل.
أبو النور، كان قريباً من السلطة، ويحسب علي شيوخ السلاطين، لكنه كان يتميز بالرصانة، وإن تعلق في أستار النظام، وربما تمت مكافأته بتعيينه وزيراً للأوقاف في وقت كان فيه مبارك قد ورث تقاليد حاكمة للدولة المصرية، تحرص على الكفاءة المهنية عند الاختيار، مع وجود عوامل أخرى مساعدة منها الولاء، والسمع والطاعة، والانحياز للسلطة. وذلك قبل انهيار منظومة القيم برحيل رئيس الوزراء السياسي الذي ورثه مبارك من السادات: فؤاد محيي الدين، وبرحيل رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب، ليدير مبارك الدولة، وفق نظرية إدارة المقاهي، ويصبح الكاتب المعبر عن مصر هو سمير رجب، وفي وقت لاحق ممتاز القط، وغيرهما ممن يدشنون
مقالات بمستوي موضوعات الإنشاء التي يكتبها تلاميذ المدارس.
انتظر البعض أن يعيد الأحمدي أبو النور الخطباء المبعدين من الخطابة في عهد السادات وعلى رأسهم الشيخ عبد الحميد كشك، لكنه لم يفعل، وكان شرط العودة يقوم وفق النظرية الأمنية القائمة علي إذلال المعارض وقهره وكسر همته، وهو أن يلتقي الشيخ بالوزير في البداية ويتعهد بالالتزام بالحكمة والموعظة الحسنة في دعوته، ثم يكون قرر عودته لمنبره، وهو ما رفضه الشيخ كشك وظل شرطه أن يعود لمنبره أولاً ثم يلتقي بالوزير بعد ذلك، إلى أن وفاته المنية في سنة 1996. وإن كان الشيخ أحمد المحلاوي قد قبل هذا الشرط.
اختفي الدكتور الأحمدي أبو النور من المشهد تماماً، وقبل سنوات سألت عنه أحد أقربائه، وقد صار لفترة غيابه نسياً منسياً ، فقال لي أنه مريض وقد تجاوز الثمانين من عمره، لكن قناة "الجزيرة مباشر مصر" استضافته عبر الهاتف مؤخراً عندما تبرع سلطان البهرة لعبد الفتاح السيسي بعشرة ملايين جنيه. والبهرة وهم احد طوائف الشيعة الغلاة، وقد منحهم السادات مسجد الحاكم بأمر الله بمنطقة الجمالية بالقاهرة، ليقيموا فيه شعائرهم، ويصبح المسجد حكرا عليهم في هذه المنطقة الشعبية. وسلطان البهرة كانت تربطه علاقات بعبد الناصر والسادات واستمرت في عهد مبارك، وحرص على استمرارها في عهد السيسي، ولم يحاول في عهد مرسي، ولا نعرف رد فعله إذا تمت المحاولة، لكن من المؤكد أن سلفيي حزب النور كانوا سيقيمون الدنيا ويقعدونها ضده لأنه يوالي الشيعة، ومن يواليهم فهو منهم!.
التشيع في مصر ملف أمني بالأساس، وفي أكثر من مرة قامت أجهزة الأمن بتقديم تنظيم من الشيعة المصريين للمحاكم بتهمة اعتناق المذهب الشيعي، لكن البهرة أمرهم مختلف، إذ يتم ترتيب وضعاً خاصاً لهم من قبل أجهزة سيادية في الدولة.
صديقنا أحمد طه هو من كان يحاور أبو النور، وكان الحوار ديني، فخرج منه أبو النور منتصراً مؤقتاً إلى أن رد عليه مستشار وزير الأوقاف في حكومة الرئيس محمد مرسي الدكتور محمد الصغير. فالوزارة – بحسب كلام أبو النور - أعطت البهرة مسجد الحاكم بأمر الله، وليس ثابتاً لديها أن لهم أفكاراً شاذة، لأنهم طائفة منغلقة وليس لديها أفكاراً منشورة.
الحوار السياسي، عن الأسرار وراء الاحتفاء بالبهرة من قبل السلطة في مصر، مما دفعت وزير الأوقاف منحهم مسجداً عطية من السلطة، هو الأفضل، وبالتطرق للتفاصيل يمكن الوقوف علي أسرار هذا التبني من قبل الدولة المصرية.
لقد اختفى الأحمدي أبو النور سنوات طويلة، ليظهر الآن، بالزي الأزهري وبلحية بيضاء، وكان وهو وزير حليق اللحية ويرتدي ملابس الفرنجة، وظهر خطيباً، ولم يكن كذلك، على الأقل رسميا، فلم أشاهده يصعد منبراً من قبل، وقد بدا في خطبة العيد محاضراً أكثر منه خطيباً.
ربما استدعاه شيخ الأزهر، ليرفع بوجوده حرجاً عن نفسه، لأن من يخطبون رسمياً الآن بالحج، وشيخ الأزهر ليس خطيباً، ولا كاتباً، ولا واعظاً، أو فقيهاً، وليس له بحث فقهي واحد، أو كتاب في أي تخصص.
ويبدو أن السيسي مغرم بكبار السن، باعتبار أن "الدهن في العتاقي" فيصر على إبراهيم محلب رئيساً للحكومة خلفاً لحازم الببلاوي، وكلاهما سبق له الموت قبل ذلك مرتين.
أشفق كثيراً علي محلب، الذي أعتقد انه يتم التمثيل بجثمانه الآن عندما يتم تكليفه من أمره رهقاً. والرجل وقد كان يعمل في شركة المقاولين العرب، ليست لديه خبرة عن العمل سوي، أن ينزل للمواقع بنفسه، ليعود في نهاية اليوم متعباً يضع رجليه في الماء الساخن بالملح استعداداً ليوم جديد.
كان إبراهيم محلب يجلس مكدراً، فيبدو أنه يعاني من خشونة في الركبة تحول دون جلوسه بشكل طبيعي، ويعاني أزمة في العمود الفقري تمنعه من الشعر بالارتياح عندما يجلس في المسجد.. يكاد يهمس في أذن السيسي: "اعتقني لوجه الله" ، لكن السيسي مغرم بكبار السن، باعتبار انهم أصحاب الحكمة الحقيقية كما كان مبارك يؤمن، ومجمل خبرة عبد الفتاح السيسي اكتسبها من التعامل مع "الرئيس القدوة" حسني مبارك، وربما لهذا وقع الاختيار على الثمانيني الدكتور أبو النور ليخطب العيد.
ولم ينس وزير الأوقاف الأسبق نصيبه من الدنيا، فأشاد من فوق المنبر بخطبة السيسي في الأمم المتحدة، وكيف انتصر بها لمصر وللعروبة والإسلام. فماذا يريد الرجل من دنيا يملكها السيسي وقد بلغ أرذل العمر؟!.. هناك حديث نبوي معناه: "يشيب ابن أدم وتشب معه خصلتان: الحرص وطول الأمل".
وهذا ليس هو الموضوع، فما يهمني هنا وأمام سيطرة الهاجس الأمني على السيسي، بشكل يجعل من بيوت الله ثكنات عسكرية عندما يصلي فيها، علينا أن نوقف "الصلاة الرسمية"، ليتم التبرع بتكلفتها لصندوق "تحيا مصر"، الذي لا نعرف إلى الآن كم جمعوا فيه، ويتم اعتماد فقه الخوف، فمع الخوف الشديد تسقط صلاة الجماعة على الخائف.. ومن في مصر يخاف أكثر من السيسي؟!
لا احد يمكنه أن يشعر عبد الفتاح السيسي بالأمان ولو كان في حماية "الناتو"!.