ألقى الشاعر والأديب الفلسطيني مريد
البرغوثي كلمة بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاة زوجته الراحلة رضوى
عاشور، جاء فيها:
افتحوا الأبواب لتدخل السيدة
من ينشغل بحزنه على فقد المحبوب ينشغل عن المحبوب، الآن أطلب من حزني أن يتجه إلى أقرب بوابة ويغادر هادئا كما أشاء أو هادرا كما يشاء لكن دون أن يلفت الأنظار.
لا يعجبني جوعه ولا تلكؤه، أكاد أكرهه تحديدا لهذا السبب، كأنه حزن لا يثق بنفسه وكأنه إن اكتفى اختفى، وكأننا لم نشاركه مقعده ومخدته ومنديله وملمس حذائه على زجاج ساعاتنا.
وقال البرغوثي في رثاءه الذي شهدته
جامعة عين شمس بمصر: "لست أنت المهم اليوم ولا أنا أيها الحزن، أنا منشغل بها لا بك أنت.
بسعيها العسير للنصر في مواجهات زمانها، واجهت السرطان خمسة وثلاثين عاما ومحدثوها لا يرون في حديقة لقائها إلا أشجار السرور وفاكهة السماح والرضا.
واجهت السائد المتفق عليه والطاغية المسكوت عنه وواجهت، حتى الرمق الأغلى، ركاكة الناطقين باسمنا، وركاكة الضوء المشترى وركاكة الكلام وطقوس الهوانم.
وأضاف، هي التي جعلت لقلبها يدا منصفة تصافح الأضعف وتصفع جملة الطاغية وشبه جملته، يدا تسهر الليالي لتصحح الواقع والامتحان.
هي التي جعلت هشاشتها اسما آخر للصلابة. هي التي علمت الديكتاتور كيف ترفض انتباهه المشبوه لقيمتها، وفى سلة مهملات واسعة قرب حذائها الصغير (نمرته خمس وثلاثون) ترمي المناصب السمينة المعروضة والألقاب الرفيعة المقترحة ودعوات الحظيرة/ القصر التي يهرول إليها سواها، مكتفية بفرح القارئ ببرق السطور من يدها وفرح الطالب ببرق المعرفة من عينيه.
ولفت البرغوثي قائلا هي الأستاذة صوتها ينادى أصوات طلابها لا آذانهم، لأن صوتها يُسمع ويَسمع. ولأنها لم تسع إلى أي ضوء، غدت بذاتها ضوءا في عتمة البلاد، وضوءا بين أغلفة الكتب وضوءا من أضواء اللغة العربية التي هي البطل الدائم والأول في رواياتها.
أخرج من أقرب بوابة يائسة أيها الحزن، ودعني أستبدل بك ابتسامتها التي تذهب حزن الرائي، فابتسامتها رأي. وموضع خطوتها رأي. وعناد قلبها رأي. وعزلتها عن ثقافة السوق رأي، ودائما جعلت رأيها معروفا موقعا بإمضائها رغم زوار الفجر وفجور طاغية يروح وطاغية يجيء.
وأشار إلى أن رضوى جمال رأيها ورأيها جمالها. فالمظلوم يخسر إن لم يكن في جوهره أجمل من الظالم. وهي لم تخسر جمالها حتى وهم يؤذونها بقبحهم ولم تخسر جمالها حتى وهي على مخدتها الأخيرة.
سيدة قليلة الجسد يتعبك تتبع خطاها، تهدم السور الفاصل بين الجامعة وعموم الناس، تظنها على مرتفعها الأكاديمي فتراها على أسفلت الميدان ذائبة في تدافع التحرير العظيم والكدمات التي توجعها توجع الطاغية قبلها، تظنها في همس القصيدة وهدأت الإيقاع، فتراها في صرخة التاريخ الخارج توا من يد القابلة وأرحام الشوارع.
وتظنها في شوارع وسط البلد فتلقاها في غيوم غرناطة وتظنها تجلس مع أبى جعفر تجلّد الكتب بخطوط الذهب، أو تدبر الحيل المذهلة مع مريمة، فتلقاها تأخذ بيدك إلى شاطئ الطنطورة وتقول لك ضع قلبك هنا، ودعه هنا، وارسم غدك من هنا، كي تعود إلى هنا، إلى الساحل الأول.
وأوضح البرغوثي أنه لم يأخذها اليأس إلى وضوحه المغري، لأنها تعلم أن الثورة لا تنتصر إلا بعد أن تستكمل كل أشكال الخيبة. ولم تمنحنا أملا كاذبا، بل دعت نفسها ودعتنا للتحمل. وتحملت. وعلى عصا المجاز وعصا خشب البلوط، واصلت السير في طريقها الطويل، تختصره بالرفقة.
والرفقة جيل أحبها وأحبته، جيل قادم بصباياه وشبابه (الحلوين كما تصفهم دائما) يصعد جبل السؤال والمساءلة، والبحث عن الحقيقة تحت كومة القش الرسمي، جبل الفضول العظيم الذي وحده يزيد العيون اتساعا والعمود الفقري استقامة. جيل يرى أن الثوابت ما خلقت إلا لكي نرجها رجا ونهتك مها ما يستحق الهتك، حتى نعرف الفرق العظيم والقاسي بين الوراء والأمام.
وأنهى البرغوثي كلمته بالقول، تنشق في أول العمر عن ثوابت الجدود والنص، والتعاليم. تمزق العباءة الموحدة المقترحة لكل أجسادنا لأنها تحترم الجسد لا العباءة، تنقد بدراساتها المدهشة كتب الإبداع وبإبداعها المدهش تنقد العالم، وتصعد. أتركوا الأبواب مفتوحة، ليخرج الحزن. ولتدخل السيدة. وقع خطاها خفيف وأكيد على هذا الدرج. إنني أسمعه يقترب. رضوى عاشور جزء مما سيصنعه هذا الجيل في أيامه الآتية وهو جزء مما صنعته في أيامه الماضية.
أثقل من رضوى ما تركتنا له وما تركته لنا.
رضوى عاشور تركتنا بعدها لا لنبكي بل لننتصر.
تركتكم بعدها لا لتبكوا بل لتنتصروا.