فرنسا والإسلام قصة قديمة وعريقة، ومنذ أن شرعت حضارة
الغرب بتصدر واجهة التاريخ الإنساني الحديث ومن ثم المعاصر؛ بل لكأن هذه الحضارة لم تكن لتوجد أو تُفهم من دون غريمها الكبير وشبه السري، هذا الذي هو الإسلام؛ فليس ثمة حقبة تاريخية رئيسية مرّ بها الغرب تاريخياً، دون أن تكون مصحوبة بما يقابلها. وبدلالات أخرى مختلفة، بمعالم حقبة إسلامية من طبيعة مغايرة، وواقعة على الطرف الآخر الجنوبي والشرقي للبحيرة المتوسطية الفاصلة بين عالمين وتاريخين، وسلالات بشرية وعرقية متنوعة، فقد شكلت هذه المرافقة الدهرية واحدةً من أهم ثنائيات التاريخ الكوني؛ إنها ثنائية
الشرق/الغرب، فليس من حَدَث يتصف بالكونية، لم يكن ليفرض وجوده من دون أن تنبجس وقائعه ما بين قطبي هذه الثنائية.
غير أن هذه المرافقة لم تكن لتنتج الحدث لدى قطب، ونسخة أخرى عنه لدى القطب الآخر. فلم يكن التماثل ولا حتى التناقض ليُسجل عنوان المرافقة أو المخالفة بين حدّي الثنائية، ولعله هو التزامن من حيث إنه معيار الأهمية والفعالية وقوة الحسم. بمعنى أنه ليس من حدث جَلَلٍ في سياق قطبٍ إلا ويوازيه حدث جلَل آخر لدى القطب الآخر، ومن دون الخضوع الحتمي لقانون الفعل والارتكاسة بينهما.
لم تعرف هذه الثنائية في تاريخها المديد حالة واحدة فيها تناظر القطبان بأحوال متشابهة؛ فالغرب المتفوق والفخور بتقدمه، ومنذ أكثر من قرنين، وهو يسلك كأنه لا يمكنه أن يغفر لجاره الشرقي القريب تخلُّفَه المزمن، فيعاقبه بمضاعفة ممارسته لسلوك الاضطهاد واستثمار عيوب التخلف أكثر، وتحويل نتائج هذا الاستثمار إلى مكاسب جديدة تباعد الفروق النوعية أكثر بين بطليْ هذه الثنائية الدهرية، لتصب طبعاً في صالح قطب القوة وحده. ومع ذلك هذان الفرسان هما الحاملان لعبء حضارة الإنسان (الأبيض)، هما المتنازعان _على قيادة الحضارة_ أزلياً وربما أبدياً كذلك، لكنهما المحتاجان لبعضهما، حاجة القوي للتحكم بالضعيف، وحاجَة الضعيف لتبرير تخلّفه بسيطرة خصمه اللدود عليه.
هذا النوع من الصراع الموصوف بالدهري قد لا تتوفر له أسباب آنية في كل الظروف، إذ له حوامله العميقة المنتجة لمؤثراتها في مختلف الأحوال. لم يكن الدين سوى الظاهرة العظمى المجسِدّة لعمق الفوارق الأخرى المؤسسة لهوية أحد القطبين مقابل هوية الآخر. هكذا اعتاد قطاع كبير من الرأي العام هنا في الغرب ألا يحاسب أفعال (الخاطئين) من أهل الشرق إلا باعتبار هؤلاء نماذج إسلاميين يمارسون تعاليم عقيدتهم. ذلك أن العقيدة هي المتهمة الأولى. هذه النظرة التبسيطية تجرد قضايا الصراع من خلفياتها المعقدة، فأخطرها ولا شك هي الأحقاد الدفينة في مستودع اللاشعور الجمعي لشعوب الضفاف المتوسطية. كأن الغرب لا يمكنه أن يغفر لإسلام اليوم تفوقه القديم وغزواته المتواصلة لمشارق أوروبا وبعض جنوبها؛ فلقد استعمر الغرب معظم أقطار الشرق.
استعبدت جيوشه أجيالاً عديدة لعقود متتابعة، من «أمة الإسلام»، لكن الاستعمار احتبس تلك الأمة، لكن من دون أن يقضي عليها. بل على العكس فقد علّم الاستعمارُ، من دون إرادته «عبيدَه» كيف يحطمون أغلالهم. نقل المستعمرون شرارات من نيرانهم إلى الهشيم من مخلفات الحضارات السابقة، شبه البائدة، هكذا فقد منح بعضها حياة جديدة؛ إذ أصابت لوثة الحرية الغربية بعدواها أبعد الجماهير، أعادت إلى أجسادها الهامدة حيوية الولادة الجديدة حتى من أرحام الطغيان والعسف، مالم يفهمه بعض الغرب إلى اليوم هو أن عصر الصراع العقائدي قد انتهى إلى غير رجعة، وأننا اليوم ندخل عصر صراع الإنسانيات..
هذا المصطلح _الإنسانيات_ ليس تعميماً مجرداً فارغاً، والمشروع الثقافي الغربي هو المكتشف الأول لمفهومه، في الوقت الذي كان فيه إسلام العرب بشرّ (العالمين) بثقافة المساواة والرحمة. فمن هو الإنساني حقاً؟ ألم يكن العربي سباقاً مع إسلامه في نشر التحرر الجماعي من إرهاب أباطرة الاستبداد البدائي المعطوف على جهالة الطبع والعنصر،بينما جعل الغرب من ثقافة (حقوق الإنسان) بضاعة إعلامية تتصدر أهوال حملات العنف على اختلافها، موجهة إلى شعوب الأرض قاطبة؟
في بعض هذا الغرب يحاول الإنسان الثقافي أن يعزل ذاته عن إنسانه السياسي. غير أن هذه العزلة لن تمنعهما من التلاقي معاً في اللحظات الحرجة من مسيرة مجتمعاتهما. وعندما تتم لحظة التلاقي السعيدة هذه، فلن يتبقى لدى الثقافي ما يلوم به رجل السياسة فيما يخص سلوكيته العنصرية الظاهرة أو الباطنة، مثلما لن يتبقى لدى السياسي ما يلوم به رجل الثقافة على مثاليته وأخوّته البشرية؛ إذ يعود خطاب الهوية هو الحاكم في أمره فيما يتعلق بتصنيف البشر بحسب ألوانهم، وليس أبداً بحسب عقولهم. غير أن الخطأ أو الانحراف قد يكون مغفوراً في اللحظات الحرجة، وذلك مثلما يزعم لسان الحال الراهنة. إنها ساعة لما يشبه زمن إعلان حرب عالمية أو شاملة. كأنما أوروبا العجوز مشتاقة إلى أزمان حروبها (الوطنية) الخاصة، أو بالأحرى إلى حقبة حروبها الدينية المعهودة، وإن أضحت تحت أسماء مختلفة شرقية. فلا مفاجأة إن عادت رموز تلك الحقبة لتسرح وتمرح في المجال العام، لتغطي علاقاته ووقائعها جميعها تحت إشارات الأخطار والمحاذير والتهديدات المنهالة من كل حدب وصوب. هذه أوروبا الغربية تغضُّ نظرها عن مذابح ومقتّلات الشرق الأوسط، بل قد تتناسى مهالك أوكرانيا وهي واقعة في خاصرتها، إنها هائجة مائجة فقط من أجل الانتقام من الإرهابيين، فالمسألة الأمنية أمست ما فوق أهم المسائل الحيوية الأخرى؛ ذلك أن الإرهاب كما تصوره وسائل الدولة والإعلام معاً تحوّل إلى ما يشبه مباراة محمومة بالتهويل والتخويف، هذا الإرهاب هو الخطر الأعظم، هو العدو الأخفى الأدهى. هو الموجود في كل مكان، وليس في مكان ما.
لا نقول إن بعض الغرب يستعيد اليوم تقاليده القروسطية في مطاردة السحرة، أو في مكافحة الطاعون الأسود. لكن كل الارتدادات الانفعالية لمنبهات هذه الحالة أمست جاهزة تحت الطلب أو الإثارة، وهذه الإثارة قد تتحول إلى غاية في حد ذاتها، وإن لم تكن مقصودة دائماً، فالمجتمع الفرنسي مثلاً، رغم غضبته العارمة ضد قتلة الصحافة، لكنه ليس منجرفاً في تيار واحد صاخب لا واع. عقلاؤه يدركون جيداً أنه مثلما على الدولة أن تتخذ أعلى التدابير الأمنية لمنع الجريمة، كذلك على النخب أن تضاعف الجهد من أجل ردم الهوة ما بين ثقافة الجمهورية، كعقيدة تربوية، موجهة لغالبية المجتمع نحو الانتصار لحقوق الإنسان وذلك بصيانة حريته وكرامته أولاً، وبين جماعات المصالح السلطوية والنفعية،
المتحكمة بأصول الدولة العميقة منذ القديم، وخضوعها لسياساتها الازدواجية والفوقية منذ عهود الملكيات الإقطاعية.
هذه صفحة جديدة لكن في كتاب قديم وعريق، عنوانُه:
معارك الحداثة بين الشرق والغرب. لن تكون هي الأولى وليس الأخيرة..
(نقلاً عن صحيفة القدس العربي)