تقود الولايات المتحدة «الحرب على الارهاب»، لكن الدول الأكثر نقداً لهذه الحرب وقيادتها واستراتيجيتها هي الدول الثلاث (اسرائيل وايران وتركيا) المتنافسة حالياً على تقاسم تركة «الرجل المريض»، وهو هنا المشرق العربي، مع بعض الامتداد الى شمال أفريقيا حيث يشكّل القتال في ليبيا وفي سيناء جانباً من صراع لم يبلغ ذروة احتدامه بعد، كما لم تتوضّح أبعاده الجغرافية. ويُستدلّ من نقاش الاجتماع الثاني لوزراء خارجية دول «التحالف»، في لندن قبل اسبوعين، أن الحرب كما عُرفت منذ أربعة شهور بلغت أقصى ما تستطيعه: اذ توصّلت من جهة الى تمكين الأكراد وبعض «الجيش السوري الحرّ» من طرد مقاتلي تنظيم «داعش» من عين العرب/ كوباني، واستطاعت في المقابل أن تساعد «البيشمركة» الكردية على استعادة عدد من المواقع لتأمين اقليم كردستان العراق وإبعاد الخطر عنه. لكن المسألة التي واجهها وزراء «التحالف» مجدداً كانت الحاجة الى قوات برّية، وعلى رغم أن ادارة باراك اوباما شدّدت منذ البداية على عدم إرسال قوات الى الأرض، إلا أن مسؤولين سياسيين وعسكريين صرّحوا أخيراً بأن البنتاغون يدرس هذا الاحتمال.
ثمة محور آخر غير مصرّح به لهذا التنافس، وهو يتمثّل تحديداً بتسابق أطراف عديدة، أبرزها الولايات المتحدة، الى محاربة «داعش» والى الأسبقية في استغلال هذا التنظيم تحقيقاً لأهدافها ومصالحها. لكن
الحروب الجانبية المتداخلة التي تخوضها هذه الأطراف تزكّي خطاب المتطرّفين عموماً، بما تُفسد محاربة «داعش» المفترض أنها أولوية استراتيجية. فمن ذلك مثلاً، أن الادارة الاميركية شهدت اوباما يتخذ للمرّة الأولى قرارات ولو مبتورة للتدخل في الخارج، سواء لأن مقتضيات «القيادة» و«الزعامة» وضعته على المحك، أو لأن اميركا ساهمت قبل رئاسته وخلالها في دفع المنطقة الى نفق لن تخرج دولها منه كما كانت، وينبغي عدم ترك التحكّم بخروجها منه لآخرين. في المقابل كان «فيتو» اوباما نفسه هو ما أحبط مشروعاً عربياً في مجلس الأمن لا يطمح لأكثر من وضع حدّ زمني لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وبناء على التفاوض.
ورغم أن انقاذ المنطقة من الارهاب هدفٌ معلنٌ للحرب إلا أن العرب، داخل «التحالف» أو خارجه، لم يشعروا أبداً بأنهم سائرون على هذا الطريق. بل إنهم مقتنعون بأن ما جاء بـ «داعش» ليس موضع نظر ولا معالجة، لا سياسات ايران واسرائيل وجرائمهما، ولا انتهاكات النظامين العراقي والسوري وجرائمهما. ثم ان الاميركيين يميلون أكثر فأكثر الى التعامل مع صانعي الارهاب تحقيقاً لمصالحهم. ووفقاً للمعطيات الراهنة فإن المستفيدين من الحرب هم بالأحرى صانعو الارهاب، الذين لبسوا للمناسبة أزياء محاربته. اذ تخوض ايران الحرب برسم خطوط حمر لها في العراق كما في سورية، فلا قوات على الأرض إلا تلك التي تأتمر بضباط ايرانيين، ولا تسليح إلا للمجموعات التي اسستها ودرّبتها، ولا قرار تتخذه بغداد أو دمشق إلا بموافقة «خبرائها» ومندوبيها أو بالعودة الى المرشد عند الحاجة.
تخوض ايران الحرب غير مهتمّة بما يفعله «التحالف»، رغم أنها تستفيد من غطائه الجوي. وتقوم قوات من «الحرس الثوري» في العراق بعمليات قتالية في العراق، وترفدها ميليشيات «الحشد الشعبي»، كما فعلت أخيراً في محافظة ديالى التي أعلن هادي العامري قائد «منظمة بدر» تحريرها من قوات «داعش» لكنه تغاضى عن أعمال انتقامية ارتكبتها الميليشيات في قرى سنّية، من إحراق لمنشآت ومنازل للأهالي وعمليا اغتصاب، بل جمعت الرجال في قرية بروانة وعمدت الى تصفية سبعين منهم.
ماذا يعني ذلك سوى تأجيج الصراع السنّي - الشيعي وإعادة انتاج الظروف التي أدّت الى ظهور «داعش» وانتشاره. يحدث هذا في ظل تحالف دولي لمحاربة الارهاب، ويقال للضحايا أن رئيس الوزراء أمر بفتح تحقيق في الأمر مع أن الأهالي اشتكوا من أن المجزرة حصلت بوجود «قوات حكومية».
وفي سورية كما في العراق تربط ايران «مساهمتها» الحربية بتقلّبات المفاوضات النووية والمفاوضات السياسية الجارية على هامشها. وعندما تقتضي الظروف فإنها تهزّ احدى «أوراق» نفوذها، فمجزرة بروانة تخدم أهدافها اذ تذكّر بأنها تمسك بمعايير التعايش والتنافر في العراق. والتوتير الأخير في الجولان السوري يأتي في السياق نفسه. كذلك تحريك الحوثيين في اليمن ليستكملوا طرد أي دعم خارجي للسلطة الشرعية، حتى لو كانت مدركة أنها تعبث في رمال متحركة يصعب التحكّم بها. لكنها في سورية، تحديداً، تتهيّأ لخلط الأوراق، فلديها خطة لإشعال جبهة الجولان، كمناورة أخيرة لضمان بقاء بشار الاسد ونظامه. ومنذ حرب عام 2006 في لبنان، وبلوغ الغارات الاسرائيلية الحدود السورية ثم تهديد اسرائيل بأن أي حرب مقبلة ستشمل سورية أيضاً، قرر الايرانيون التحضير للمواجهة التالية بتوسيع نطاق الجبهة ونصب منظومة صاروخية مترابطة بين جنوب لبنان والجولان، وفوّض اليهم نظام الاسد إعادة هيكلة خططه الدفاعية. بعد سلسلة غارات اسرائيلية خلال العامين الماضيين على مواقع في دمشق ومحيطها، استهدفت شحنات أسلحة وصواريخ متطورة مخصّصة لـ «حزب الله»، أعلن الاسد في ايار (مايو) 2013 أنه سيحوّل الجولان «جبهة مقاومة» وسيعهد بالمهمة الى مجموعات مقاومة، وهو ما ترجمه حسن نصر الله بعد أيام بالقول: «سورية ستسلمنا أسلحة نوعية، وجبهة الجولان ستُفتح».
بين النظام السوري واسرائيل «معادلة» أو «قواعد لعبة» ترقى الى عام 1974، قوامها الهدوء في الجولان في مقابل ضمان النظام في دمشق وتعهّده ضبط الفلسطينيين في لبنان. وقد استدرج هذا التعهّد موافقة دولية وعربية على وصاية سورية على لبنان، كما أتاح للطرفين اعتباره ساحة للصراع بينهما، تصعيداً وتنفيساً، ما لم يمنع اسرائيل من اجتياح لبنان أكثر من مرة (1978 و1982 ضد منظمة التحرير الفلسطينية، و1996 و2006 لمواجهة «حزب الله» ومن ورائه ايران). كان دخول ايران قد أخلّ بالمعادلة، خصوصاً بعد الانسحاب السوري من لبنان، لكن الانتفاضة الشعبية في سورية بلورت مصلحة مشتركة لإيران واسرائيل تمثّلت برغبتهما في بقاء نظام الاسد. وأخيراً اعتبر الايرانيون أنهم يقتربون من اتفاق مع الادارة الاميركية إلا أن «لوبي اسرائيل» سيقصيه، لذلك باشروا نشاطاً ميدانياً لتفعيل «المقاومة» في جبهة الجولان، أولاً لتحدي اسرائيل واستفزازها، وثانياً لمواجهة «ترتيبات تعايش» توصّلت اليها مع فصائل معارضة مسلّحة ناشطة في جنوب سورية، وثالثاً لتلميع النظام السوري وإظهار «خروجه» من الأزمة من بوابة الصراع مع اسرائيل.
لم تبدِ اسرائيل بدورها أي اهتمام بـ «التحالف الدولي»، فهي ليست جزءاً منه، وتعتبر مفهومه للارهاب «ناقصاً» إلا أنها تؤيد وجوده طالما أنه يفتح أمامها خيارات، كما فعلت بذهابها الى حرب ثالثة ضد غزة. فكما شكّل تنظيم «القاعدة» فرصة انتهزها آرييل شارون بدعم من ادارة جورج دبليو بوش للإجهاز على «عملية السلام» و«اتفاقات اوسلو» المنبثقة منها، يرى بنيامين نتانياهو أن «داعش» فرصة للدفع بأن طبيعة الصراع (العربي - الاسرائيلي) باتت دينية بحتة ولذلك فإن «الحرب على الاسلام» هي المطلوبة، ويتساوى في ذلك أن يضيف صفة «المتطرّف» الى الاسلام أو لا يضيفها، لأن ايمان المسلمين العاديين بقضية فلسطين وشعبها يقلق الاسرائيليين أكثر من عنف المتطرفين.
ولذلك تبنّى نتانياهو داخلياً خيارات المجموعات الأكثر تطرّفاً في انتهاك المنشآت الدينية الاسلامية، ومن المؤكد أنه سيستغلّ الدعوة المفتعلة من الكونغرس لتضمين خطابه رسالتين: أولهما، أن العدو «العربي» مات ليظهر العدو «الاسلامي» بديلاً منه، وإذ أصبح الفرز الديني استحقاقاً ماثلاً فإن دعم اسرائيل صار يعني دعم يهوديتها لتنتصر على الاسلام. أما الرسالة الثانية، فهي أن البرنامج النووي الايراني لم يعد هو المشكلة ولا مصدراً للخطر، لكن «القنبلة» الحقيقية التي تمتلكها ايران هي نجاحها في صنع تطرّف اسلامي مسلّح ومنضبط، يعمل بإمرة نظامها، والأهم نجاحها في استغلال التطرّف الاسلامي غير الموالي لها...
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)