من مظاهر الخلل الفادح والاستقطاب المدمر في مصر، أن الناس انقسمت إلى قسمين متناقضين تماماً؛ بشأن زيارة الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين لمصر. الفريق الأول المتفائل نظر إليها باعتبارها ستحل فوراً كل مشاكل مصر، والفريق الثانى المتشائم يراها شراً كاملاً وستفاقم مشاكل مصر المتفاقمة أصلاًَ.
الفريق الأول يعتقد أن مجرد هبوط طائرة بوتين في مطار
القاهرة، وسماعه الموسيقى العالمية في الأوبرا، وتناوله العشاء في مطعم البرج، يعني أن خريطة العالم تغيرت والشرور توقفت، والإرهاب اندحر إلى غير رجعة.
الفريق الثاني لا يرى في زيارة بوتين أي شيء إيجابي بالمرة، يعتبرها فاشلة من أول عزف السلام الوطني لروسيا، نهاية بمخاطر المحطة النووية التي يفترض أن تبنيها روسيا لمصر في الضبعة.
أنصار الفريق الأول أوقفوا عقارب الزمن على حقبتي الخمسينيات والستينيات، يتصورون أن الاتحاد السوفييتي عاد للحياة مرة أخرى، وأن تشي جيفارا يحارب الاستعمار الغربي في أدغال إفريقيا، بعد أن ساهم في تحرير أمريكا اللاتينية. يعتقدون أيضاً أن الاتحاد السوفييتي سوف يمدُّنا بالأسلحة والقمح والمصانع، وكل ما نحتاجه مجاناً نكاية في «الإمبريالية الأمريكية».
الفريق الثاني يرى أن روسيا دولة فاشلة وبوتين ديكتاتور، وما كان ينبغى أن ندعوه للزيارة أصلاً، وإذا دعوناه لم يكن لينبغي استقباله بهذه الحفاوة، وأن الزيارة لم تحقق أية فائدة، والمحطة النووية ستنفجر قبل أن يبدأ تشغيلها.
الفريق الأول يرتكب خطأً قاتلاً حينما يعتقد أنه يمكن إحلال روسيا محل أمريكا وأوروبا، لم يعد ذلك ممكناً بالمرة، روسيا نفسها لا يمكنها أن تستغني عن الغرب، والصين بكل إنتاجها لا تستغنى عن الأسواق الغربية والتكنولوجيا الأمريكية.. فهل تفعلها روسيا، وبالتالى هل نفعلها نحن و«حالنا يصعب على الكافر»؟!.
هذا الفريق لابد أن يفيق على حقائق العصر ويتوقف عن
التفكير بمنطق فتوات نجيب محفوظ في «الحرافيش». وفي المقابل فإن كارهي السيسي عليهم أن يحكِّموا عقولهم، ولا ينظروا إلى كل ما يفعله باعتباره خطأً في خطأ.
تناقض هؤلاء ــ خصوصاً الإخوان وأنصارهم ــ أنهم يتهمون النظام المصري بأنه تابع لأمريكا ولإسرائيل. لو كانوا كذلك لأيدوا السيسي فى صفقات السلاح مع روسيا وفرنسا؛ لأنها تقلل تبعيتنا لأمريكا. الرجل يحاول أن يبني علاقات متوازنة مع كل القوى الدولية الكبرى، فهل هذا خطأ؟.
ومعارضوه لا يقولون لنا لماذا يعارضونه في هذه النقطة.. إلا إذا كان جل همهم هو كراهية الرجل، أو أنهم يريدون لمصر أن تظل «عبداً» لأمريكا في كل شيء .
طريقة تفكير الفريقين خاطئة والحقيقة تكمن في المنتصف بالضبط.
زيارة بوتين كانت مفيدة لمصر، لكنها ليست كل شيء، وعندما توافق روسيا على بناء محطة للطاقة النووية، فهو تطور مهم جداً، لكنه يحتاج إلى أموال وكفاءات ونظام عمل متقن؛ حتى لا تتحول هذه المحطة إلى
كارثة كبرى.
نحتاج إلى الدعم الروسي في مجالات كثيرة، لكن في المقابل فإن التلويح لأمريكا بأننا لا نحتاجها قد يجعلنا ندفع ثمناً فادحاً.. واشنطن لاتزال قادرة على الإضرار بنا مثلما تفعل مع دول كثيرة أقوى منا وأكثر استقراراً مثل إيران.
إذاً الذين هوَّنوا أو هوَّلوا من زيارة بوتين للقاهرة أخطؤوا.
وفي الواقع فإن طريقة تفكير هؤلاء وأولئك هي التي ستقودنا إلى الهلاك ــ لا قدر الله ــ لأنها أحادية ولا ترى الآخر أو تؤمن به، وبالتالي فالمطلوب أن نتوقف عن هذه الطريقة في التفكير، ليس فقط فيما يتعلق بتقييم الزيارة أو حتى مجمل علاقتنا بروسيا، بل في نظرتنا لكل شيء. لا أحد يحتكر الحقيقة، وكل شيء في السياسة، مثلما هو في الحياة نسبي وليس مطلقاً.
علينا أن نتحلى بفضيلة التواضع قليلاً، ونرى الأمور من مختلف جوانبها؛ حتى لا نستيقظ قريباً على كوارث، نحن في غنى عنها، لأننا ورثنا منها الكثير من مبارك ونظامه.. هذا النظام الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن.
(نقلا عن صحيفة الشروق)