لا نستطيع أن نحصر كل صفحات
الدماء منذ الانقلاب العسكري الذي حدث في الثالث من يوليو على تعددها، وعلى الأشكال التي اتخذها لإزهاق الأرواح وإهدار النفوس بحيث تعبر هذه الصفحات عن مزاج دموي يستهين بالدماء ويستخف بالنفوس، وذلك في إطار تفويضه الأول الذي دخل به إلى باب الارهاب المحتمل والمفتعل، إلى محاولته لاستئناف تفويض جديد فشلت وقائعه فشلا ذريعا، خاصة حينما أراد أن يحول التفويض بالقتل إلى تفويض للاقتتال بين الشعب الواحد وقواه.
يبدو هذه المرة أنه ينتقل من التفويض إلى تجربة مدخل أخر يتعلق بمنظومته الاستبدادية ألا وهو "التعبئة"؛ التي تقوم على قاعدة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" حتى لو كانت تلك المعركة مصطنعة في دوافعها، زائفة في أهدافها، مخادعة في خطاباتها، تبدو حال التعبئة باستخدام أذرعه الإعلامية لمحاولة صناعة "التفاف" حول زعامة زائفة انفض من حولها من كان يساندها من جراء ممارسات فاضحة وفادحة، من منظومة استبدادية تتكون من أدوات قمعية بوليسية ومن فاشية مستبدة عسكرية، أو هي تحاول "التهرب" من كافة الاستحقاقات خاصة مما ارتكبته من قتل وحرق وخنق فضلا عن اعتقالات بالجملة استهانة بالدماء وتوقع مزيد من الشهداء.
تأتي تلك الأحداث التي تتابعت في ليبيا بما يخص المصريين الذين اختطفوا في ليبيا ثم قام وفق هذه الرواية "تنظيم الدولة" بقتلهم جميعا وهو ما أعقبه على الفور مغامرة عسكرية قامت بالقصف لأهداف ادعت أنها لتنظيم الدولة أو مراكز تدريب له، بدت هذه الأحداث تفتح الباب لمزيد من الدماء، وتراكم مزيد من الشهداء، ومن هنا كان على "بيان القاهرة" والذي أعد أحد مؤسسيه أن يصدر بيانا واضحا يضع الأمور في نصابها، والأحداث في سياقاتها حتى يمكن تحديد الموقف قيمة ومقاما، وهذا هو نص البيان:
بيان بشأن أحوال المصريين في ليبيا
نعزي الأمة المصرية في الفاجعة، ونعزي أهالي الضحايا في ذويهم، ونسأل الله لنا ولهم الصبر والسلوان على هذا الحادث الجلل.
وننوه إلى أننا قد حذرنا مرارا وتكرارا من الممارسات العبثية لأى نظام يمكن أن يحكم مصر فى ظل ظروف معقدة ومتداخلة وملتبسة، وقلنا إنه من الضرورى أن يتخذ أي نظام مواقف متوازنة لا يتحيز فيه لأي طرف من الأطراف المتنازعة، ذلك أن أى موقف غير مسئول أو يتسم بالمراهقة السياسية وطفولة المواقف سيكون له عواقب وخيمة على المصريين العاملين على أرض ليبيا طلبا للرزق، وأن مساندة قوات حفتر المنقلب ومسانديه سيأتى بنتائج سلبية على عموم العاملين فى ليبيا، خاصة حينما يكون التعامل بين الفرقاء فى ليبيا عسكريا وبالسلاح، ويبدو أن الخطاب الذى يقوم على مفردات خادعة مثل الإرهاب المحتمل والمفتعل سيصب حتما فى مصلحة الإرهاب الحقيقى.
ومن ثم فإننا نحمل نظام الانقلاب كل أمر يؤدى للنيل من أمن وأمان المواطنين المصريين البسطاء من العاملين على أرض ليبيا، سواء من خلال المواقف الطفولية غير المحسوبة، أو من خلال التخاذل والتقاعس عن اتخاذ المواقف الصلبة والحاسمة فى وقتها ومقامها.
وإن أى مواقف تحمل أى قدر من الاستخفاف أو الرعونة فى الفعل أو رد الفعل ستؤدى إلى تعقيد الموقف على بقية العاملين المصريين على أرض ليبيا وتهديد حياتهم وأمنهم.
وفي هذا السياق فإن بيان القاهرة يقول:
• نعزي المصريين جميعا بعد المجزرة البشعة التي راح ضحيتها 21 مصرياً، قتلوا غدراً في ليبيا على مرأى ومسمع من العالم كله، قتلهم مجرمون لا يقيمون حرمة للأرواح ولا لدين الله، إن هؤلاء المجرمين الذين يدعون أنهم يطبقون رسالة سيد الخلق أجمعين لا يخدعون إلا أنفسهم.
• إن المنصفين من البشر أيا كانت دياناتهم يوقنون بأن هؤلاء لا يعبرون عن الدين الإسلامي لا من قريب ولا من بعيد.
• وبرغم ذلك فإنه لا يفوتنا أن نلوم أجهزة الدولة المصرية التي تركت هؤلاء وحدهم، وتجاهلت شكاوى أقربائهم منذ عدة أسابيع دون أي تحرك جاد، ولم تستفق إلا على المشاهد الصادمة التي روعت الأمة المصرية كلها.
• كان من الممكن إنقاذ هؤلاء، وما نعرفه أن هناك رهائن ما زالوا في سجون هذا التنظيم المتطرف، وأن أجهزة الدولة لم تكلف نفسها التفكير في مصير هؤلاء، ولا في مصير مئات الآلاف من المصريين البسطاء الذين يقيمون في ليبيا.
• ليس من الإنسانية ولا من الوطنية استغلال أرواح المصريين أو المتاجرة بها سعياً لمكسب سياسي أو لاحتساب نقاط ضد النظام الحالي الذي نعارضه علناً.
• وليس من الوطنية ولا من المسؤولية أن يستغل النظام هذا الحدث الأليم في لعبة السياسة الداخلية أو الخارجية المبنية على حسابات غير دقيقة أو تمثل مصالح أنانية.
• نؤيد القصاص العادل لأرواح المصريين العزل، وبنفس المنطق فأننا نرفض استهداف وقتل مدنيين عزل في ليبيا.
• على جميع الوطنيين أن يتقوا الله في مصر، وأن يعلموا أن هذه الجريمة الأليمة بداية، وليست نهاية، وعلى الجميع أن يتقوا الله في أبناء مصر في ليبيا، وأبناء ليبيا كذلك، وأن يعلموا أن أي فعل تقوم به الدولة المصرية قد يدفع ثمنه مصريون بسطاء قد لا يستطيعون مغادرة الأراضي الليبية حتى لو أرادوا ذلك.
• نحذر من أى مواقف رعناء يمكن أن تجرَّ البلاد الى مواقف غير محسوبة تؤدى الى الإضرار بأمن مصر القومى، ودخول معارك لا ناقة لنا فيها ولاجمل، معارك لا ينتصر فيها أحد، والكل فيها مهزوم.
فقط نحن نعرف أن عدونا الوحيد يتمثل فى الكيان الصهيونى، وأن سلاحنا يجب أن يتجه الى هذه الناحية دون غيرها، وأن الحفاظ على أمن أرواح المصريين كافة جزء لا يتجزأ من الأمن القومى وضروراته.
نسأل الله أن يرحم وطننا، وأن يحكم مصر نظام يضع أرواح شباب مصر على قمة أولوياته، ويضع مستقبلهم نصب عينيه.
نترحم على أرواح شباب مصر، وندعو الله أن يستجيب لجميع الصلوات التي تلوها قبل أن يرحلوا".
هذا البيان يشكل إشارة إلى موضوع خطير يتعلق بالملفات السوداء للمنظومة الانقلابية التي تحتوى ملفاتها على صفحات حمراء مصطبغة بالدماء من مذابح وقمع من خلال الاعدامات والانتحارات والجنود المستشهدين على الحدود وفي الثكنات، وهؤلاء الذين يعملون في بلاد أخرى واستهدفوا نتيجة مواقف تعبر عن مراهقة وطفولة سياسية مما يجعلهم قيد الانتقام من جماعات مسلحة، دماء جديدة تُهدر بغير تحسب أو حساب، ويلحق بذلك المغامرة والمقامرة من خلال رد عسكري، قد يهدد أولادنا من العاملين البسطاء على أرض ليبيا مما يفتح الباب لإراقة دماء محتملة بما يشكل خطرا على أمن مصر ومستقبلها وعلى رأسه الأمن الإنساني لمواطني مصر في الداخل والخارج..
كم يكفي هؤلاء الانقلابيون من دماء حتى يرحلوا لنغلق هذا الملف الأسود الذي استهتر بحياة الإنسان والمواطن المصري؟!.