من «
عاصفة الحزم» إلى «
قمة العزم»، إلى قوة عربية مشتركة. هل «تحيا الأمة العربية»، كما كرر ثلاثاً الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي؟ كلمة الرئيس المضيف للقادة العرب في شرم الشيخ، وكلمة الملك سلمان بن عبدالعزيز شكلتا رسالة واضحة إلى
إيران خصوصاً من دون عناء تسميتها، بوجوب وقف تدخلها في شؤون دول الجامعة. أطلقت القمة دينامية جديدة على وقع الرياح التي هبت على المنطقة مع إطلاق المملكة العربية السعودية «عاصفتها» جنوب شبه الجزيرة. رفع الرئيس المصري سيف «الصد والردع» حقاً لمواجهة أي تدخل يهدد هوية «الإقليم العربي»، لذا، كان التحرك العربي لمواجهة الحوثيين «حتمياً»، ومثله مشاركة مصر في هذا التحرك، كان يصادق على تأكيد الرياض أن حال اليمن حال البحرين، حال أي دولة عربية.
لم يتجاوز اللاعبون في اليمن الحديقة الخلفية لدول مجلس التعاون، كانوا في صحن الدار. تجاوزوا قواعد اللعبة والخطوط الحمر. لذا، لم يكن مفر من المواجهة العسكرية. لم يدرك الحوثيون وشركاؤهم معنى اللقاء الخليجي برئاسة الملك سلمان بن عبدالعزيز في العوجا بمنطقة الدرعية، قبل نحو أسبوع. لم يستمعوا إلى الأمير سعود الفيصل الذي لوح بأن دول الخليج ستتخذ الإجراءات اللازمة لحماية المنطقة من «عدوان» جماعة الحوثي، وجدد ربط أمن اليمن بأمن دول مجلس التعاون. كان لا بد من أن تخرج المملكة عن تحفظها وصبرها. لن تسمح بالمساس بأمنها الوطني وتعريض مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، لن تلتزم حدود رؤية أمريكا. أثبتت أنها قادرة على تجاوز محاذير هذا الحليف الدولي الكبير وحساباته، بل هي قادرة على دفعه إلى تأييد سياستها، كما يحصل اليوم في اليمن.
اللعب باستقرار شبه الجزيرة مكلف، ولا يمكن أن يمر بلا حساب. لذلك، لم تكن الغارات مفاجئة لليمنيين وحدهم، بل شكلت صدمة لجميع المعنيين بشؤون المنطقة وأمنها، ولا بد لهؤلاء من أن يعيدوا النظر في حساباتهم وسياساتهم وخططهم. لن يكون بمقدور أي طرف دولي أو إقليمي، بعد اليوم، أن يستأثر برسم عناصر النظام الإقليمي من دون التوقف طويلاً أمام الكثرة الغالبة من أهل الإقليم، والمملكة في القلب من هذه الخريطة.
طوت المملكة العربية السعودية صفحة في الحرب الباردة مع إيران. الصراع يكاد يتحول، بعد قمة شرم الشيخ، وجهاً لوجه، بلا أقنعة وقفازات، أو توسل قوى محلية هنا وهناك، بل قبل ذلك، إن صور قاسم سليماني وعناصر «الحرس الثوري» في كل من العراق وسوريا، جعلت الكبار في الإقليم في مقدم المشهد وليس في الإطار البعدي أو الخلفي. إيران شريك رئيسي في الانقلاب الذي قاده الحوثيون ضد الشرعية، وضد المبادرة الخليجية ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني. دفعت وتدفع هؤلاء إلى الاستيلاء على كل اليمن، فيكتمل الطوق حول السعودية وشركائها في مجلس التعاون. والنشوة التي عبر بها مسؤولون إيرانيون عن انبعاث الامبراطورية الفارسية وتمددها إلى أربع عواصم عربية، بدت تعبيراً فجاً عن استهتار بالأمن القومي العربي عموماً والخليجي خصوصاً. وما فاقم القلق العربي صمت أمريكا الذي ازداد عمقاً مع اقتراب المفاوضات النووية من نهاياتها. لا ترغب الديبلوماسية الأمريكية في أي تحرك أو لفتة أو إجراء يمكن أن يوتر الحوار مع إيران، لذلك غضت الطرف طويلاً عن «الحركات الامبراطورية» في الإقليم!
المهم بعد «العاصفة» وبعد القمة، هل ترد إيران، أم تعيد النظر في حساباتها؟ وأين ترد؟ هل تفتح المواجهة على كل مساحة الإقليم، أم إن الصدمة التي أصابتها في اليمن قد تدفعها إلى مواقف أكثر واقعية؟ لن تتردد بإلقاء ثقلها من أجل حماية الحركة الحوثية كما فعلت وتفعل في سوريا. لكن للجغرافيا فعلها؛ لا حدود مباشرة لها مع اليمن. لا يعني ذلك أنها ستتخلى ببساطة عن «أنصار الله». إن خوض حرب استنزاف للسعودية عبر حدودها الجنوبية ستكون مكلفة للطرف الأضعف، عسكرياً واقتصادياً. سواحل اليمن وأجواؤه باتت تحت سيطرة التحالف الجديد الذي لن يسمح بإيصال أية مساعدات إلى الحوثيين. ولن يكون يسيراً على طهران تحريك بعض القوى في منطقة الخليج. فقد رفعت الدول الخمس في مجلس التعاون وتيرة إجراءاتها الأمنية الداخلية تحسباً. كما أن اتساع رقعة الدول التي وقفت إلى جانب الرياض في حملتها، يزيد إرباك موقع الجمهورية الإسلامية في الصف الإسلامي أولاً. وهي كانت حريصة دائماً على أن تكون الوجه البارز لهذا الصف. لن تجازف حتماً بالجنوح إلى مواجهة مكشوفة ومباشرة مع دول «العاصفة»؛ لأنها لا تريد مزيداً من العزلة. مثلما لا ترغب في تعريض مفاوضاتها مع الدول الست الكبرى للانهيار، إضافة إلى عوامل أخرى لعل أبرزها أنها لا يمكن أن تحتمل تمويل جملة من الحروب في الإقليم، فيما لا تزال تعاني من الحصار وآثار تدني أسعار الطاقة.
لا يمكن أن تستهين إيران بالشركاء الكثر الذين خرجوا من مواقع عدّها بعضهم حيادية؛ من السودان الذي انتقل إلى المقلب الآخر من البحر الأحمر، إلى الأردنيين الذين خرجوا من ترددهم مثل المغاربة. من مصر التي لم تتخلَّ عن شعار أمن الخليج جزء لا يتجزأ من أمنها القومي، إلى الباكستانيين الذين حذر رئيس وزرائهم نواز شريف من «أن أي تهديد لسلامة أراضي السعودية سيثير رداً قوياً من باكستان». علماً أن تاريخاً طويلاً من الشراكات يجمعهم مع جيرانهم الإيرانيين. وحتى تركيا التي بينها وبين بعض أركان التحالف شيء مما صنع الحداد لم تكتفِ بالتأييد، بل أبدت استعداداً للمساعدة اللوجيستية وغيرها. رد فعل الأمريكيين والأوروبيين أيضاً ربما فاجأ إيران التي راهنت على حرصهم على تحاشي ما يمكن أن يشوش على المفاوضات النووية، فصمتوا وتعاموا عما جرى ويجري في الإقليم.
في أي حال، الحسابات في بداية الحرب تختلف عنها في أثناء العمليات. والساحة اليمنية مفتوحة على شتى التطورات، ومختلف أنواع التحالفات جنوباً وشمالاً. ولعل السؤال البارز هنا عن موقف الرئيس السابق علي عبدالله صالح، هو يدرك الآن أنه بات الطرف الأضعف في الصراع القائم. لذا، يمهد للابتعاد عن الحوثيين، إذا صح البيان الذي نسب إلى حزب المؤتمر إثر انطلاق «عاصفة الحزم». وأياً كان موقفه لا يمكنه أن يستمر، أو أن يندفع مع الحوثيين لمقاومة العملية العسكرية. فالمعروف أن قوى كثيرة في صفه وحتى في صفوف الزيود عموماً ترتبط بعلاقات تاريخية مع السعودية، خصوصاً ودول الخليج عموماً. وقد لا ترى مبرراً للمجازفة بهذه العلاقات وما تنطوي عليه من تهديد لمصالحها. لعل الموقف الوحيد الذي يفيد الرئيـــس السابق، بعد التطور الأخير، هـــو العودة للانضواء تحت الخيمة الخليجية. علماً أن هذه المبادرة أخذ عليـــها كثيرون أنها تهاونت معه ومع فريقه ومنحته حصانة وحضوراً سياسياً لحزبه، لكنه انقلب عليها. وقد لا يكون أحد من الخليجيين على استعداد للتعاون معه مجدداً، بل ربما كان خروجه من المشهد السياسي مطلباً في أي تسوية مقبلة.
إن نجاح الحملة في اليمن سيضعف موقع إيران ويحد من اندفاعتها في شبه الجزيرة. ولا شك في أن قصور الحملة التي رعتها لتحرير تكريت من «الدواعش»، واستنجاد بغداد بقوات التحالف الدولي العربي، دليل على حدود قوتها وقوة حلفائها، وسيشكل قيام القوة العربية المشتركة تحدياً نوعياً لنفوذها في الإقليم. صحيح أن جبهة جديدة في اليمن فتحت لمصر التي ستفاقم عبء حملها بعد جبهتي ليبيا وسيناء، غير أن تزاوج القدرة البشرية والعسكرية المصرية مع القدرة الاقتصادية وتأثير المواقع الجغرافية لدول الخليج، تؤسس لقوة قادرة على رفع التحدي، ودفع الآخرين إلى مراجعة حساباتهم. ولكن ليس إلى حد أن يراهن بعضهم على اعتبار هاتين «العاصفة» و «القوة المشتركة» نموذجاً سينتقل ببساطة من اليمن إلى تحرير «العواصم» الأخرى. إن ضرب الحضور الإيراني في صنعاء إذا تحقق، قد يدغدغ شهية التحالف الجديد للتقدم نحو مواقع أخرى. لكنه لا يعني أبداً أن طهران لا تملك ما يكفي من أوراق وقدرات، أو أنها ستكون سريعاً في موقع دفاعي. إن مثل هذا الرهان يشبه النشوة التي أخذت الإيرانيين بعيداً نحو تاريخهم الامبراطوري، إثر اندفاعات الحوثيين، وقبلهم قوات «الحشد الشعبي» العراقي و «الدفاع الوطني» السوري. ما يحصل في اليمن قد يصلح نموذجاً لليبيا ربما إذا تعذرت التسوية السياسية وطال الحوار الذي ترعاه الأمم المتحدة. وهذا ما يمكن استخلاصه من كلمة الرئيس السيسي الذي لم يجد تناقضاً في العمل على المسارين: مواصلة الحوار وتصعيد الحرب على الفرق الإرهابية. لكنه لن يصلح لسوريا. هذه لها حسابات غربية وتركية وروسية، بخلاف الحسابات الإيرانية.
يبقى أن الطريقة التي سيتعامل بها أهل «العاصفة» مع الحركة الحوثية وحجمها الديموغرافي والسياسي، إذا جنح الجميع نحو الحوار مجدداً، قد تشكل مؤشراً ومثالاً ربما شجع المتصارعين في الإقليم على البحث عن تسوية ليس في سوريا فحسب، بل في العراق ولبنان... على قاعدة تحفظ للأقليات هنا وهناك حقوقها بعد أن تستعيد الأكثريات شرعيتها في السلطة والحكم حيثما يجب. نجحت القيادة السعودية الجديدة حتى الآن في إعادة ترتيب خريطة علاقاتها ومصالحها في المنطقة. ونجحت «عاصفة الحزم» في استنهاض دول الجامعة، وعاد إلى الشرق الأوسط الكبير التكتل السنّي في مواجهة إيران وحلفائها في المنطقة. لم تعد السعودية وحيدة في هذه المواجهة من أفغانستان إلى سوريا ولبنان وفلسطين واليمن... فهل يواصل «الهلال» الإيراني تجاهل هذا البساط العربي - السنّي الممتد من المغرب إلى باكستان مروراً بالشمال الإفريقي؟ هل تدفع «العاصفة» الجديدة في الإقليم الجميع إلى طاولة الحوار والتسويات، أم تتحول سريعاً إلى إعصار لا يبقي ولا يذر، ويكون اليمن نموذج الخرائط الجديدة في المنطقة؟
(نقلاً عن صحيفة الحياة اللندنية)