ليس هنالك ما هو أسهل من أن يأخذ المرء موقفاً منحازاً لجبهة في حربين بين جبهتي اقتتال. لأن ثمة، دائماً، ما يمكن أن يساعد على حشد الحجج في مصلحة إحداهما أو ضدّ الأخرى. كما ما أسهل أن تصبّ الزيت على النار، ولا سيما إذا كنت بعيداً من أن يصل إليك لهيبها مباشرة.
ولكن ما أصعب أن تأخذ موقفاً يدعو لوقف الحرب والطلب من قادة الجبهتين الجنوح للسلم والتحاور والتفاهم، خصوصاً إذا كنت في الآن نفسه منحازاً في داخلك لإحداهما وتتمنى لها أن تهزم الأخرى.
من يُراجع تجارب عدد من الانقسامات والصراعات الداخلية التي حدثت خلال الأربع سنوات الماضية في عدد من الأقطار العربية، ولا سيما حين انتقلت إلى المواجهة بالسلاح والقتال، سيجدها ما زالت دائرة، وبتفاقم عن المراحل السابقة من دون أن تصل إلى مستوى الحسم، وإن لم تفتقر إلى تقدم نسبي، بقوة هذه الجبهة ضدّ تلك الجبهة المقابلة. وقد انتهى الاستنتاج الغالب بأن لا حل، أو لا نهاية، إلاّ بالتسوية السياسية عبر الحوار والتفاهم وتوزّع المكاسب والمخاسر، وإن على مضض، أو غصّة، أو عدم رضا.
إذا كان الأمر كذلك في نهاية المطاف، وبعد سيول الدماء ووقوع الكثير من الكوارث المادية، فلماذا لا نصل مُبَكراً إلى ما سَنُجْبَر على الوصول إليه في نهاية المطاف؟ وهو ما يوفرّ الكثير الكثير من الويلات الإنسانية من حياة البشرية، وفقدان أحباء ومخاسر مادية لا تُحصى، ودخول في مستنقع الأحقاد والعصبيات المدمّرة للمجتمعات ووحدة البلاد.
لا شك في أن الإجابة عن السؤال سهلة جداً للوهلة الأولى. ولكن مراجعة تجارب شعوب كثيرة، كما تجارب عرفناها قديماً وحديثاً، ولم نزل نعيشها، تقول إن الإجابة عن السؤال لم تكن سهلة، وإن بدت لكل عاقل بدهية جداً. وذلك لأن مسار الوقائع والأحداث ذهب إلى عكس تلك البدهية.
ومن يذهب في ذلك المسار المعاكس هم من ذوي العقول الراجحة بل لا يمكن بأي شكل من الأشكال اتهامهم باللاعقلانية، أو بنقص في تعقل البدهيات. وهنالك منهم مَن يُعطي الدروس بالعقلانية وضرورة تحكيم العقل والمنطق.
فما من عمل يقوم به إنسان عاقل، أو سويّ، إلاّ ويقوده عقله إليه، فحتى الأهواء يعززها العقل- عقل صاحبها أو أصحابها.
ومن ثم نجد كثيراً من الصراعات التي تندلع بضراوة تحكمها عقول مقتنعة بأنها ستحسم الصراع بالقوة مهما حلّ من الويلات. ثم لا تقتنع تلك العقول بالجنوح إلى السلم والحوار والتفاهم والقبول بحد أدنى مما كان يُراد الوصول إليه، إلاّ بعد التعمّد بالدم. والدخول في الخراب والدمار، كما الاكتواء بخسائر مادية ومعنوية فادحة (قد تفوق كل تصوّر سابق) ثم من دون حسم.
فذلك كله يدخل في السنن، ونادراً ما تتغلب سُنة استباق نهاية المطاف منذ البداية. ومن ثم توفير الكثير الكثير من المصائب والخسائر والكوارث.
إن سُنة استباق نهاية المطاف هي التي يجب أن تُعالَج بها التطورات التي آلت إليها أزمة اليمن، بتحوّلها إلى أزمة إقليمية عربية وإسلامية.
ثمة نهج يبدأ في المعالجة باتخاذ الموقف إلى جانب هذه الجبهة أو تلك من جبهتي أو جبهات الصراع داخلياً وعربياً وإسلامياً. وهو أمر لا مفر منه مهما حاول المرء أن يستبق مآلات هذا الصراع بالدعوة إلى الجنوح السريع إلى وقف القتال والعمليات العسكرية
السعودية –
المصرية ودول أخرى، ثم الدخول في حوار والوصول إلى التفاهم الداخلي كما التفاهم في ما بين الدول العربية والإسلامية المنخرطة أو التي ستنخرط فيه.
ولكن مع ذلك لا مفر من الدعوة إلى التفاهم
الإيراني – التركي – المصري – السعودي كخطوة أولى بسبب أهمية هذه الدول في وضع حد سريع لحرب اليمن إن جاز التعبير، ثم دورها في وضع حد لأزمة سوريا والعراق وليبيا.
إن هذه الدول الأربع مصر والسعودية وتركيا وإيران هي التي تستطيع (مع دول عربية وإسلامية وقوى شعبية ومحلية) أن تؤدي الدور الرئيسي في حل الأزمات الملتهبة في اليمن وسوريا والعراق، ثم أضف الجزائر والمغرب وتونس في حل أزمة ليبيا.
طبعاً حبذا لو استطاعت القوى المحلية في كلّ قُطر أن تقوم هي في عملية التحاور والتفاهم، ويترك للدول الأربع المذكورة دعم ما يمكن أن تتوصل إليه القوى المحلية في قطرها. ولكن على مستوى الوضع العام الذي تشكل في البلاد العربية وعلى المستويين الإسلامي والعالمي فإن تفاهم تلك الدول الأربع يشكل الطريق إلى إنهاء ما يسود ذلك الوضع العربي العام من فوضى ودماء، وبروز ظواهر التطرف على ألوانها، ولا سيما ظاهرة داعش التي تعدّت كل الخطوط الحمر في فقه القتال، وتصرفت ضد كل السنن في التغيير وإدارة الصراع والتدافع حتى ضد نفسها.
إنه تفاهم الدول الأربع ومعها وبالضرورة الدول العربية الوازنة الأخرى بل كل الدول العربية هو الطريق أيضاً إلى بناء نظام عربي – تركي – إيراني جديد لهذه المنطقة التي أسماها الغرب (وغيره) زوراً بمنطقة الشرق الأوسط، وذلك بعد أن سقط النظام الذي فُرِضَ عليها بعد الحرب العالمية الأولى وكُرِّسَ بعد الحرب العالمية الثانية حتى العام 2010. طبعاً مع حدوث اختراقات مهمة منذ الخمسينيات له. ولكن من دون الوصول إلى تغييره. أما اليوم فقد انفتحت آفاق تغييره، أي تشكلت موازين قوى تسمح بإقامة نظام جديد بديلاً له.
قد يقوم اعتراض هنا، وهو مشروع ومسوّغ تماماً يقول كيف يمكن أن يقوم هذا التفاهم فيما الانقسام الحاد مندلع بين محاور تتزعمها هذه الدول الأربع، أي في ما بينها عملياً (عدا التحالف بين مصر والسعودية)؟
حقاً، تكاد الدعوى إلى تفاهم هذه الدول إلى حد حل الأزمات المشتعلة، أو في الأصح، من أجل الإسهام في حلها إلى جانب القوى المحلية صاحبة الشأن الأول، أن تكون دعوى غير قابلة للتطبيق والتحقق وربما إلى حد الاستحالة ضمن ما نرى في ما بينها من صراعات.
وهنا لا بد من العودة إلى ذي بدء، نسأل هل نَصُبُ الزيت على النار ويأخذ كل منا موقفه في الصراعات الدائرة التي أَدْخَلَت، وسَتُدْخِلُ، المنطقة العربية – الإيرانية – التركية في حرب عامة، كما في حروب قُطْرِية لا حلّ لها في نهاية المطاف إلاّ من خلال التسوية والتفاهم؟ أي هل ننتظر حتى نغرق في بحور الدماء أكثر، وتكتسحنا الكوارث والأحقاد ونسمح بفتح الأبواب للتدخلات الخارجية، بعد أن تضاءلت أدوارها، أم نستبق الأحداث ونسعى إلى التسويات والتفاهمات قبل "خراب البصرة"؟
باختصار يجب أن يعلو الصوت لاستباق نهاية المطاف التدميري للذات. وذلك بالدعوة إلى تفاهم هذه الدول الأربع: إيران –
تركيا – مصر – السعودية كما إلى التفاهمات الداخلية. نعم يجب أن يعلو هذا الصوت حتى لو قيل إنه من الأحلام أو المحال.
وختاماً، فإن كل ذلك يُراد له أن يُطوق الكيان الصهيوني ويُقرّب يوم تحرير كل فلسطين.
ويا للروعة إذا فك الحصار عن قطاع غزة. واستبقت القدس والضفة الجميع إلى الانتفاضة الشاملة ليتوحّد الكل خلفها.