يتواجدون في مقهى حي دراغ بالمنصور وسط
بغداد منذ الصباح الباكر، وحتى ارتفاع صوت المؤذن لصلاة الظهر من الجامع القريب من المقهى، حيث يؤدون صلاتهم ليعودوا إلى منازلهم التي لا تعرف كيف أوصافها ونوعيتها، لكنها حتما ليست مريحة للسكن، لذا لا يتواجدون فيها وقتا طويلا، بدليل أنهم يعودون قبل صلاة العصر إلى نفس أماكنهم وكراسيهم البسيطة البيضاء، وبعض الأرائك القديمة، يشربون الشاي، والسجائر، ويتسامرون ويتداولون أحاديث تكاد تتمحور حول معاناتهم، وأوضاع محافظتهم التي تستعر فيها نار الحرب، وتطول جلساتهم مساء كل يوم.
هذا هو حال بعض نازحي محافظة
الأنبار الذين يتميزون بزيهم العربي الأصيل، ولهجتهم المميزة، ونوعية حديثهم وسؤالهم الذي بات يتكرر كثيرا: "متى نعود لديارنا ونتخلص من التشرد والنزوح؟" فضلاً عن حكايات تتعلق بمعاناتهم من الإيجارات التي تضاعفت عليهم من قبل أصحاب العقارات الذين استغلوا ظروف النازحين واضطرارهم للسكن بأي مكان، و قبول أي سعر يفرض عليهم.
ويقول الحاج سعدي علي (70 عاما)، وهو نازح فلوجي: "يتواجد أغلب السكان النازحين من الأنبار في منطقة الكرخ من بغداد، لكنهم يواجهون قسوة أصحاب العقارات الذين رفعوا أسعار الإيجار ثلاثة أضعاف عمّا كانت عليه قبل نزوحنا، وتعاملوا معنا وكأننا أصحاب شركات لا نازحين ومشردين خرجنا مجبرين".
ويضيف الحاج الفلوجي في حديثه مع "
عربي21": "قساوة الحياة في مناطق النزوح والظروف الاقتصادية التي نعانيها لا تقل خطورة عن قساوة ويلات الحرب التي شردتنا وأفقدتنا بيوتنا، وسياراتنا، وكرامتنا، وكبريائنا، ومستقبلنا، فأصبحت قيمة إيجار المنزل الذي لا يتجاوز من المساحة 70 مترا مليون دينار عراقي وأكثر، بعد أن كان في السابق بحدود 250 ألف دينار عراقي، وهذه الأسعار تشهد ارتفاعا متصاعدا تبعا لطبيعة المنزل ومساحته، وحاجة الناس للمنازل بسبب استمرار عملية النزوح، وقد يصل الإيجار إلى مليوني دينار أو أكثر لمنازل متواضعة".
وأغلب منازل السكن هي عبارة عن غرفة واحدة تسكنها عائلة قد تزيد عن 20 شخصا، ناهيك عن معاناة توفير الكهرباء والأثاث الضروري للعائلة، وشراء الملابس؛ لأن أغلب المواطنين خرجوا بملابسهم هاربين من رصاص وشظايا المدافع والتفجيرات العنيفة التي تستهدفهم.
مسؤول لجنة الإغاثة علي الكاتب قال إن كل شيء يرخص أمام حياة الناس، و"للأسف، فإن الحرب هي حصاد للأرواح". وأضاف الكاتب: "بينما أصبح غالبية النازحين في عداد البطالة منذ ما يزيد عن 16 شهرا لفقدانهم أعمالهم، والبعض ربما فقد وظيفته جراء ظروف الحرب وتداعياتها المأساوية، وهذا تقصير الحكومة التي فشلت في معالجة أوضاع الناس المشردين".
كما أن الخوف أصبح كابوسا على النازحين في الأنبار الذين يترقبون عملية عسكرية واسعة ستشهدها محافظتهم لطرد عناصر
تنظيم الدولة منها جراء آلة الحرب التي دمرت منازلهم، وخوف آخر من حدوث ما جرى لسكان تكريت من قضايا تدمير، وحرق، ونهب، وسلب من قبل جماعات إجرامية استغلت الظرف خلال تحرير تكريت من تنظيم الدولة.
المهندس المدني محمد الفلوجي الذي يبدو عليه التعب والقلق وثقل الهموم، وهو يفرغ شحنات غضبه في مسبحة صغيرة سوداء بيده اليمنى، قال لـ"
عربي21": "حتى لو جرى تحرير الأنبار من التنظيم فإننا نخشى على ما تبقى من منازلنا التي قد يحصل لها ما جرى في تكريت من نهب، وسلب، وحرق، وعسانا أن نعثر على غرفة من منازلنا، وركن سليم يأوينا، ويستر علينا عند عودتنا بعد انتهاء الحرب في الأنبار".
يبلغ تعداد سكان الأنبار حوالي مليوني نسمة، جميعهم أصبحوا ضمن قوائم النازحين، وتتجاوز نسبة الفئات الشبابية 60 بالمئة من السكان، جميعهم تحولوا إلى عاطلين عن العمل، وحرم غالبية الطلبة من الدراسة في المدارس والجامعات، وربما سجلت وسائل الاتصال الحديثة دورا كبيرا في جمع شتات هذا المجتمع للتواصل، وهم يتوزعون ما بين بغداد ومحافظات إقليم كردستان
العراق وبعض المدن الوسطى، والبعض هاجر إلى خارج البلاد بحثا عن الأمان.
قصص وحكايات مقهى حي دراغ بالمنصور من بغداد تجسد معاناة النازحين العراقيين، سواء في الأنبار، أو نينوى، أو صلاح الدين، وديالى، وهي دعوة للحكومة العراقية لنبذ الخلاف ورعاية الناس، هكذا يلخص أحمد العراقي رئيس رابطة النازحين التي ما تزال في إطار الفكرة.