نظرتُ في صورته النادرة المنشورة على الإنترنت، وتساءلت: هل رأوا يومها في وجهه مستقبلنا، كما أرى اليوم فيه انبعاث فجرنا؟ وهل علموا أن الرجال سينبعون من دمه، كما نبع من ترابنا، وانبثق من حجارة بلداتنا القديمة؟ وأن الرجال سينتشرون في بلادنا ومعهم ضوء أشلائه التي لا تنطفئ؟
لا يشبه
ساهر تمام إلا نفسه، ولا يشبه شيئًا كما يشبه هذه الأرض، ولا يشبهه أحد إلا الشهداء، إلا الذين امتلكوا كلمة السر التي بزغت في قلبه، فتمايز الناس.. ما عادت الوجوه السمراء تشبه بعضها، ولا عاد الكل ينشق من هذا التراب، ولا عاد زهر لوزنا يطل من العيون كلها، ولا عادت حكايتنا المعبقة بالفرسان والجياد، بالتكبير والصهيل ترتسم في الوجوه كلها.. وحدهم الذين امتلكوا السر العظيم صاروا أحفاد فجر حكاياتنا العتيقة، وأول فجر حكاياتهم الآتية، وأجداد الصاعدين من بعدهم، الدافقين من ترابها وبحرها، والمسرجين في قلبها.. من عيونهم وحدهم يطل زهر اللوز إلى الدنيا.. وفي وجوههم وحدهم تفترش تلك الحكايات بفرسانها وجيادها، وتكبيرها وصهيلها..
على بطاح تلك الجراح المتفائلة سالت الجياد بالأمل على الزمن الآتي، يمتطيها كبرياء جبالنا، وصمود أسوارنا، وإصرار صحارينا، وغضب بحارنا، في القلوب التي لا تشبه إلا نفسها، ولا تشبه شيئًا كما هذه الأرض، حتى سكنت رملها وانفجرت منها على تخوم غزة، واحتضنت بحرها وانفرقت عنه، "فكان كل فرق كالطود العظيم" على شواطئ زيكيم.
من رحم الأمل ولدت أشلاء ساهر، وصعدت واتخذت مكانها في سمائنا، شمسًا في نهارنا، نجمًا في ليلنا، معهم. مع الذين يعودون مطرًا من سمائنا في شتائنا، وزهرًا في ربيعنا، وأملاً في صيفنا، وثورة في خريفنا، ويتخذون من مسارات الوحي طريقًا في نزولهم إلينا وصعودهم إلى مستقرهم الأزلي، شهداء متخذين.
ساهر الفتى المرفه، المدلل، سليل الثراء، ابن العشرين أو أقل، فرض نفسه مقاتلاً في
كتائب القسام في زمن السابقين الأولين، والثلة النابضة بيحيى عياش أول المهندسين وأمير
الاستشهاديين.. ألقى عبواته البدائية على مركز الشرطة، وصدم مستوطنَيْن بسيارته، والتحق بمطاردي القسام في جبال
نابلس، وخاض أول معاركه وفيها كانت أولى رصاصاته، وسبق بالعملية الاستشهادية الأولى في مستوطنة "ميحولا" قرب بيسان، في 16 نيسان 1993.. نافس رفيقًا له في الجهاد عليها وفاز بها.. فرد إلى بيسان ربيعها، وأودع شيئًا من مسكه الخالد في زهرها.. في بيسان نطق ساهر تمام بكلمة السر: "الله أكبر"، ومن جرحه الدافق بالبشرى نبع الرجال من بعده ينطقون بها: "الله أكبر".
هكذا تكلم الأسير المحرر، عبد الحكيم حنيني، في قناة الجزيرة شاهدًا على عصر الاستشهادي الأول، وقاصّا على الرجال المنتظرين المطهرين الذاكرين الله؛ حكاية جدّ صعودهم، حكاية الشاب الذي استحال جدًا للصعود وأبًا للفجر وهو في الثانية والعشرين من عمره.