تابعت تداعيات نتائج الانتخابات البرلمانية البريطانية وكيف يعترف المهزوم بفوز منافسه، ويتحمل مسؤولية خسارة حزبه ويقدم استقالته ولا يتفلسف كثيرا ليبرر فشله ويرمي الكرة في مرمى الآخرين كما هو الحال عندنا، فيستقيل رؤساء الأحزاب الثلاثة الخاسرة مرة واحدة: إيد ميلفن زعيم حزب العمال العريق، و نيك كليغ زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار، و إيغل فراغ زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة.
فأدركت أن حضور ثقافة الاستقالة وتحمل مسؤولية الفشل أو التراجع دون رمي مسؤولية ذلك على الآخرين عندهم من الأمور المهمة التي تصنع الفارق بيننا وبينهم، ففي ساحتنا العربية تحديدا يتسبب بعض المسؤولين والحكام والوزراء ورؤساء الأحزاب في كوارث حقيقية لأوطانهم وشعوبهم وأحزابهم، ولكن لا يفكر أحدهم مطلقا في الاستقالة وتحمل المسؤولية بل يتعنتر في الصراخ بنظرية المؤامرة وثقافة التبرير وصناعة المشاجب الجاهزة ليرمي عليها مسؤولية ما تسبب فيه، حيث نرى ونشاهد أقطارا بائسة من عالمنا العربي تم تدميرها وتخريبها على الآخر، وقتل مئات الآلاف وتهجير الملايين من أبنائها، ورغم ذلك ما يزال حاكمها الملهم مصرا على بقائه على كرسيه، ولا يهم إن بقي جالسا على أطلال وطن، ولا يهم إن أفنى غالبية شعبه وشرده وهجره، أو حتى باع جزءا من بلده أو كله، ودمر مكتسباتها وحتى تاريخها وحضارتها، المهم فقط أن لا ولن يفكر مطلقا في شيء اسمه ((الاستقالة)) أو الانسحاب من المشهد.
وإذا كان ولا بد فعلى الشعب التواق إلى التغيير أن يبادر هو بالاستقالة وليس جلالة الحاكم، وتجد وزراء تقع كوارث حقيقية في قطاعات وزارية هم يشرفون عليها ورغم ذلك يبقى الوزير في مكانه دون أن يكلف نفسه أن يستقيل ويتحمل بعض مسؤولية ما حدث مثلما يفعل كل وزراء الدنيا، وبالمقابل نرى كذلك رؤساء أحزاب وقادة جماعات وتنظيمات تتغير الأحداث من حولهم، وتتبدل الظروف، وتحصل الكوارث والأزمات المختلفة قد يكونون هم بعض أو كل أسبابها، ولكنهم لا يتزعزعون من مواقعهم مهما حدث ومهما كان حجم المأساة، بل حتى إنهم لا يستحون أن يطالبوا بتغيير الحكام، ويعيبون عليهم تشبثهم بالسلطة، ويتناسون أنهم بدورهم يتشبثون بمواقعهم القيادية في أحزابهم وجماعاتهم ولا يغادرونها إلا إلى القبر، ليتفق الجميع ــ على ما يبدو ــ على ترسيخ انطباع ليكون من خصوصيات منطقتنا العربية تقريبا دون منازع، مفاده أن الزعيم أو الرئيس أو الحاكم أو القائد أو الأمير في الدولة أو الحزب أو الجماعة أو التنظيم يتكلس في منصبه لعشرات السنين دون أن يغادره لأي سبب من الأسباب، لتصبح الكثير من وجوه هؤلاء الكالحة من مكونات البلد وثوابته العامة التي يولد الإنسان العربي فيجدها أمامه، ويعيش عمرا ليس بالقصير وهي تصاحبه ويموت وهي باقية، وتنشأ أجيال كاملة وهي لا تعرف إلا هذه الوجوه.
وتذهب هذه الأجيال ويأتي غيرها وهؤلاء الديناصورات متواجدون على رأس دولهم وأحزابهم وجماعاتهم، إلى الحد الذي يصبح الاعتقاد الغالب لديهم ولدى مريديهم المصفقين لهم أنهم عامل استقرار البلد أو الحزب أو التنظيم، وأن ذهابهم لأي سبب من الأسباب سيمس هذا الاستقرار وسيدخل البلد أو الحزب أو التنظيم في المصير المجهول.
وحتى الإنسان العادي في عالمنا العربي تجده متشبعا إلى حد التخمة بفكرة التنصل من تحمل مسؤولية ما قد يتسبب فيه، فمن المفارقات المضحكة المبكية في هذا المجال مثلا أنك تجد الواحد عندما يتكاسل فيتأخر عن الحافلة في سفر ما فيعبر عن ذلك بقوله: سبقتني الحافلة أي أن الحافلة هي التي تتحمل المسؤولية، ولا يقل تأخرت عن الحافلة حتى لا يظهر أنه هو المتسبب في هذا التأخر، وإذا أسقط كأسا وهو يشرب مثلا يقول: تكسر الكأس ولا يقل: أسقطت الكأس فكسرته حتى لا يتحمل مسؤولية تكسير الكأس وهكذا.
إن فكرة التنصل من تحمل مسؤولية أخطائنا أو أفعالنا أو تقصيرنا أو فشلنا مترسخة في ثقافتنا الجمعية، ويبدو أنها من الأمور القليلة التي تنال الإجماع في ساحتنا العربية، يستوي في ذلك الحكام والأنظمة والأحزاب والمواطنون والمشايخ والنخب والعلمانيون والوطنيون والإسلاميون وغير هؤلاء، وهي أحد أهم علامات ودلائل التخلف في أوطاننا وفي منطقتنا ككل.