إن
الاستفتاء على
التعديلات الدستورية الذي جرى في
تركيا الأحد؛ يشكل محطة مفصلية في تاريخ تركيا المعاصر لدى كل الأطراف، سواء المراهنة على إنجاحه، ممثلة في الرئيس
أردوغان وحزبه ومؤيديه، أم التي عملت المستحيل على إفشاله، ممثلة في المعارضة التركية ومؤيديها وداعميها من الأوروبيين. وبما أن النتائج قد خرجت بالشكل الذي جاءت به، وإن كانت ابتسمت الصناديق في النهاية للفريق الأول ولو كانت النسبتان متقاربتان جدا، فيمكن قراءة هذه النتائج وفق الدلالات التالية:
1 ـ أن الفعل الديمقراطي حقيقي ومترسخ لدى الأتراك باختلاف توجهاتهم، ويبقى الصندوق هو الفيصل والحل في قضاياهم واختلافاتهم، ولا يجرؤ أي طرف مهما كانت سطوته وحضوره وسيطرته على المشهد العام في البلاد أن يفكر مجرد التفكير في تزوير إرادة الشعب التركي أو التلاعب بأصواته، وأنه في كل محطة انتخابية يظهر أنه لا يقدم صكا على بياض لأيّ كان وإن زكى هذا الطرف أو ذاك.
2 ـ أن نتائج الاستفتاء جاءت بعد مرحلة تعد من أصعب المراحل التي مرّ بها أردوغان وحزبه وتجربته منذ اعتلائه سدّة الحكم في تركيا سنة 2002، حيث جاءت بعد محاولة انقلابية كبيرة ومحكمة كادت أن تعصف به، وإجراءات عميقة ضد المؤسسة العسكرية ونفوذها وصلاحياتها وكذلك تنظيم فتح الله غولن، ومواجهة مباشرة مع التنظيمات الكردية وداعش، وخلافات عميقة مع الطرف الأوروبي، وتداعيات الملف السوري وغيرها، لذلك فإن النتيجة في ظل كل هذه الظروف والأجواء يمكن اعتبارها إنجازا.
3 ـ تقارب نتائج الموافقين والرافضين يدل على بروز ظاهرة الانقسام والاصطفاف الحاد في المجتمع التركي مجددا والتي عمل حزب
العدالة والتنمية على تجنبها خلال كل تجربته، والتي عملت الكثير من الأطراف الداخلية والخارجية على تغذيتها والدفع نحوها لأنه في ظلها فقط يمكن إرباك التجربة. ومن باب الموضوعية، يكون الرئيس أردوغان كذلك قد ساهم بشكل أو بآخر في رفع حدّتها، إضافة إلى تدليلها على تصاعد شعبية المعارضة وتراجع حزب العدالة والتنمية، وهي الرسالة التي فهمها الرئيس أردوغان على ما يبدو وقدّر خطورتها على تجربته ومشروعه، وهي النتائج التي لا يمكن من الناحية الموضوعية كذلك أن تبنى عليها تغييرات جوهرية وعميقة في بنية النظام التركي، لذلك أكد على أن الفرصة متاحة للجميع كي يعوضوا ما خسروه، وهي إشارة تهدئة بعدما حقق ما يريد لكن ليس بالحجم الذي كان يأمله.
4 ـ أن تقول مدن كبيرة مثل أزمير وديار بكر لا للتعديلات أمر طبيعي وغير متوقع منها عكس ذلك، لاعتبار الأولى الحصن الحصين للعلمانية الأتاتوركية والثانية المعقل الرئيسي للأكراد، ولكن أن تقول إسطنبول لا للتعديلات رغم كل الحملة التي قام بها الرئيس أردوغان، وهي المدينة التي كان يرأس بلديتها وبدأ منها صعوده وحقق فيها نجاحه، فهو مؤشر سيئ ورسالة سلبية تخصم من رصيد حزب العدالة والتنمية، وينبغي على الحزب والرئيس والحكومة التركية قراءتها بشكل عميق وموضوعي للبناء عليها في استراتجية التدارك والتحرك في المرحلة القادمة.
5 ـ تؤشر النتائج كذلك على استمرار تواجد القوى العلمانية وتنفذها وتموقعها في المؤسسات المختلفة، خاصة الإعلام. ويبدو أنها بدأت تستفيق من وقع الصدمات والضربات المتتالية التي تعرضت لها من قبل أردوغان وفريقه وحزبه، خاصة بعد التقاء مصالحها مع جماعة غولن المتنفذة بدورها بقوة داخل المؤسسات التركية المختلفة رغم الحملة الكبيرة التي شنتها عليها الحكومة.
6 ـ الرئيس أردوغان برهانه على النظام الرئاسي يبدو أنه كان يراهن على خيال الشعب التركي وتاريخه الذي يعشق القائد والزعيم القوي صاحب الحضور والكاريزما، ويصطف حوله منذ تأسيس الدولة العثمانية إلى أتاتورك، لذلك فإن هذه الصيغة من نظام الحكم (الرئاسي) في تقديره بتناغمها مع المخيال الشعبي التركي ستحمي تركيا وتجربتها ومكانتها من التحديات الكبرى التي تواجهها، وهي النقطة التي فهمتها الأطراف الأوروبية جيدا وعملت المستحيل على عرقلتها لارتباطها في المخيال الأوروبي بأمجاد تركيا العثمانية وما فعلته بأوروبا، لكن الشعب التركي يبدو أنه لم يلتقط رسالة أردوغان بالشكل الكافي، ما يبدو أن جزء مهم منه انحاز إلى الاستقرار (النظام البرلماني) وعدم الرغبة في التغيير، لذلك صوّت حتى بعض أنصار حزب العدالة والتنمية برفض التعديلات وإن كانت نسبتهم قليلة.
7 ـ أظهرت النتائج مدى خطورة سلاح الشائعات والميل الفطري لتصديقها مهما كان وعي الرأي العام المستهدف بها، والدور المحوري الذي يمثله الإعلام بمنحييه السلبي والإيجابي.
8 ـ النفاق الأوروبي وكيله بمكيالين، فاستفتاء بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي كانت نتائجه 51.9 (وهي النتيجة نفسها تقريبا للاستفتاء التركي 51,4) ديمقراطية، وينبغي احترام إرادة الشعب البريطاني الحرة، لكن الاستفتاء التركي دكتاتورية ولا بد من التوافق ومراعاة الكتلة الرافضة في الإجراءات التي تتطلبها استحقاقات التعديلات بعد نجاحها.
9 ـ أتصور أن الأخطار الحقيقية التي تستهدف أردوغان في شخصه وحزبه ومشروعه وتجربته ستتضاعف في المرحلة القادمة، ومن الممكن أن تأخذ أشكالا أكثر مأساوية قد تصل إلى التصفيات الجسدية، وهو ما ينبغي التنبه له ومراعاته والتعاطي الهادئ والحكيم مع المرحلة الحساسة المقبلة، والميل أكثر إلى التهدئة ونزع فتائل الاصطفاف والانقسام الحاد داخل المجتمع التركي ما أمكن والعودة التدريجية - وإن كانت صعبة - إلى "سياسة تصفير المشاكل" التي أبدعها أحمد داوود أوغلو، والذي أعتقد أن دوره مهم جدا في المرحلة القادمة التي ستعيشها تركيا وتجربتها.
10 ـ الملاحظ التفاعل الكبير للرأي العام العربي مع نتائج التعديلات التركية في المعسكرين: المساند لأردوغان وتجربته والكاره والرافض لها والشامت بها، ربما أكثر حدّة في الكثير من الأحيان حتى من ردود فعل الرأي العام التركي نفسه بمعسكريه الداعم والرافض للتعديلات موضوع الاستفتاء، وهو ما يدلل على محورية الوضع التركي ومآلاته على تدافع المشاريع والخيارات في المنطقة ككل من ناحية. ومن ناحية أخرى، يحمل نوع من صور القفز العاطفي على خيبات الأمل التي يعيشها جزء مهم من الرأي العام العربي الذي كان يراهن على مخرجات الربيع العربي ونتائجه، والتي يرى أن بصيصه يبقى قائما ما دامت التجربة التركية ما زالت تأخذ طريقها وتحافظ على مسارها وإن بوتيرة أبطأ. وفي المقابل، فإن المعسكر الآخر يرى في التجربة التركية وبقائها قائمة وصامدة وتحقق نجاحات رغم كل العراقيل التي وضعت أمامها؛ معناه أن مشروع الثورة المضادة الذي يعملون له ويساندونه لا يمكنه أن يستقر وإن أخذ من الهالة ما أخذ.