كتب نديم قطيش: أربع وعشرون ساعة بعد انطلاق «عاصفة الحزم» في اليمن، أطلت
إيران بوجهها العربي من بيروت عبر الأمين العام لحزب الله حسن
نصر الله، في خطاب هو الأعنف بحق المملكة العربية السعودية. مهد نصر الله بهوية الضاد لحملة إيرانية ما لبثت أن انطلقت بحق المملكة، شارك فيها معظم المسؤولين الإيرانيين، بمن فيهم مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي، إلى جانب خطابات تكررت لنصر الله في السياق والاتجاه نفسيهما.
مناسبة العودة إلى هذه اللحظة هي الخطاب الأخير للأمين العام لحزب الله في الذكرى الخامسة عشرة لانسحاب إسرائيل من
لبنان في 25 أيار 2000. في هذا الخطاب، وهو الأول بعد زيارة بالغة الأهمية لمستشار المرشد علي أكبر ولايتي إلى بيروت ودمشق، أفصح نصر الله عن تراجعات كبيرة في نصه.
فمن الهجوم المركز والشخصي على السعودية، تراجع النص إلى كلام سياسي لا مكان فيه للشتائم والتجريح والاستهداف الشخصي. التراجع نفسه يلحظه المرء في الجزئية اليمنية، حيث ترجل نصر الله عن المهمة التي تنطح لها كناطق أول باسم الحوثيين ومشروعهم السياسي والعسكري، إلى مرتبة أرفع قليلاً من مراقب خارجي للأزمة، مكتفيًا بالإصرار على فشل الرياض في اليمن، وداعيًا إلى الحل السياسي.
لم تشبه لغته هذه المرة أيًا من الخطابات التي افتتحها بعد «عاصفة الحزم»، في نفسها التعبوي والقيادي. لم يتطرق مثلاً إلى منع السعودية سفينة المعونات الإيرانية من دخول اليمن خارج شروط التحالف، ما شكل إهانة علنية للعنجهية الإيرانية.
في المقابل أبقى نصر الله على خطاب سوري عالي السقف، وإن كان سقفًا لا تسنده الوقائع الميدانية. «فالدنيا بألف خير» حسبما قال، في الخطاب نفسه الذي اعترف فيه بتوسع انتشار «داعش» و«النصرة» وجيش الفتح، لا سيما سقوط تدمر. وحاول بيع جمهوره معركة القلمون باعتبارها أم المعارك، خلافًا لكل التقارير الجدية التي تحدثت عن معارك فيها الكثير من الاستعراض والدعاية رغم قساوة بعضها.
فالمعطيات الموثقة من القلمون، عبر الطائرات من دون طيار التي تجول السماء على طول الحدود اللبنانية السورية، وتوثق بالفيديو تفاصيلها الميدانية، بتنسيق بين الجيش اللبناني والخبراء الأميركيين، تفيد بأن المعركة الفصل التي لم تحصل بعد هي في جرود الطفيل، حيث الكثافة الأعلى للمقاتلين ضد نظام الأسد، كما في منطقة الزبداني التي تهدد طريق دمشق الدولي، المؤدية إلى آخر المعابر البرية التي يسيطر عليها النظام!!
بهذا المعنى، كان الشق السوري من خطابه، أداة للتعبئة والاستنهاض، في معركة وصفها بالوجودية، في حين يدرك هو قبل جمهوره أنها معركة في ربع الساعة الأخير، وأن حماية نظام الأسد، مهمة من الماضي، ومطلوب منه أن يستمر في البذل والتضحية بناسه ومصالحهم لتغطية الوقت الضائع قبل استحقاق الاتفاق الإيراني الأميركي.
ولعل هذا ما حدا به إلى استخدام عبارة «شيعة السفارة» في كلام منسوب إليه، ثم قال بالصوت والصورة، إن أميركا تعمل لتشويه صورة المقاومة وفت عضدها. فهو هنا لا يتحدث مع خصومه بقدر ما يقطع الطريق على حلفائه وعلى حال التململ في شارعه، بأن يذكرهم أن ما يجول في خواطرهم نتيجة الأثمان الفادحة لمعركة بغير أفق، ليس إلا رجسًا من عمل الشيطان وسفارته وشيعته. والتململ كبير ويتنامى.
وإلا كيف تكون معركة وجودية للشيعة ويتلكأ رئيس مجلس النواب نبيه بري عن خوضها، بل ينفي مشاركة مقاتليه في معارك القلمون بعد تسريب صور لآليات تحمل رايات حزبه. الأمر يتجاوز هنا مسألة توزيع الأدوار بين حركة أمل وحزب الله. ويتجاوز منطق أن الرئيس بري هو الاحتياط الاستراتيجي لحزب الله، مما يعني أن وظيفته في إدارة مصالح الشيعة مختلفة عن وظيفة
حزب الله.
كل هذا صحيح ربما، أو الأدق أنه كان يصح في السابق. فالشيعة يواجهون اليوم استحقاق إعادة انتشار النفوذ الإيراني في المنطقة بدفع من الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة، مع ما تعنيه إعادة الانتشار من تغيير في الوظائف والأدوار، وما تستدعيه من كفاءات ومواصفات مختلفة لحماية المصالح.
يعلم نصر الله أنه ينتمي إلى فريق في إيران ليس الأقرب إلى قلبه، التفاهم مع الشيطان الأكبر، وما يجره التفاهم من وهن سيصيب حكمًا الخطاب الآيديولوجي، كانعكاس لفقدان الدور والوظيفة. أو بالحد الأدنى تشوش هذين؛ الدور والوظيفة. وهو في موقع من يعرف بالوقائع أن الأسابيع المقبلة في الشرق الأوسط هي بين الأدق والأخطر، وفيها تتقرر مصائر وأحجام كثيرة، بينها حجم الحرس الثوري الإيراني في الداخل الإيراني وخارجه، في ضوء ما بعد التفاهم مع الشيطان الأكبر.. سابقا.
من السذاجة الحكم بانتهاء حزب الله الآن، أو أن المتضررين من الاتفاق في إيران سيسلمون عن طيب خاطر بالتوازنات التي سيرسيها. فنصر الله عبر عن معطى جديد هو رغبة إيرانية ما في تصدير منتج جديد بعد الفشل في تصدير الثورة، وهو تصدير ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة»، في اليمن وسوريا والعراق. أي ثلاثية الشراكة بين دول الإقليم ومليشيات إيران التابعة للحرس لإدارة التوازنات الداخلية في دول الإقليم.
وبالتالي انخراط الشيعة علنًا في الحروب الأهلية العربية بشكل أوضح مما هو حاصل الآن. لا شيء يشير إلى أن الحرس لن ينجح في جر إيران إلى هذا الخيار الذي سيعني المزيد من انهيار المشتركات بين المكونات العربية، وبالتالي انهيار دولها وكياناتها. لكن هذا خيار ستصيب نتائجه إيران نفسها، التي تشهد اليوم حراكًا شعبيًا كرديًا وعربيًا، وتتعايش كل يوم مع «الحركة الخضراء» التي لا يزال جمرها مشتعلاً.
عليه، فإن العارفين بزيارة ولايتي إلى بيروت ودمشق، قالوا إنها زيارة، تعقيل. والعارفون بالرجل يحسبونه على معسكر العقلاء عند المتشددين. والعارفون أكثر يقولون إنه ممن اختبروا باكرًا تجرع «كأس السم» حين شارك في الأمم المتحدة عام 1987 في المفاوضات حول القرار الأممي 598، الذي أنهى الحرب الإيرانية العراقية.
(عن الشرق الأوسط اللندنية)