لا جدال بأن جبهة
النصرة أحد أهم فصائل المعارضة السورية المسلحة، وأكثرها فعالية وحضورا في المشهد الجهادي السوري، فقد برهنت على مدى سنوات الثورة بأنها الفصيل الأكثر تماسكا وقدرة على التكيّف مع تحولات المشهد العسكري، إلا أن قدرة النصرة على التكيّف مع التحولات ونزوعها البراغماتي بقع في سياق الفضاء الجهادي السلفي وليس السلمي المدني.
ولا يمكن للنصرة أن تتجاوز نسقها البنيوي والدخول في أفق "بارادايم" (نموذج إرشادي) جديد، فقد جاءت تصريحات "أبو محمّد
الجولاني" زعيم جبهة النصرة (قاعدة الجهاد في بلاد الشام) في 27 أيار/ مايو 2015 عبر لقاء قناة "الجزيرة"، في سياق الكشف عن موضوعة الاعتدال وإمكانية الاستدخال.
لقاء الجولاني مع قناة الجزيرة خيب آمال أنصار التيار الديمقراطي المدني، لكنها خيبة منتظرة انبنت على توقعات حالمة انتظرت تحولات جذرية تقطع مع مسلمات الخطاب الجهادي السلفي وأيديولوجيته المتصلبة المتعلقة بالدولة والمجتمع وقضايا الديمقراطية والتعددية والمواطنة، فتلك مسائل مقطوعة في النظر الجهادي السلفي باعتبارها تقع في دائرة الكفر والردة.
أما بالنسبة للتيار الجهادي المرتبط بتنظيم
القاعدة، فإن تصريحات الجولاني تعدّ تحولا كبيرا ونقلة مذهلة في أبجديات البناء الإيديولوجي التاريخي لتنظيم القاعدة الذي تقوم أولويته على قتال "العدو البعيد"، ممثلا بالغرب عموما، والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا، باعتبارها "رأس الأفعى" وأصل الشر.
لا شك بأن جبهة النصرة تشهد تحولات بارزة بوصفها تنظيما مرتبطا بالقاعدة، فقد ظهرت جبهة النصرة جماعة جهادية مع بدء عسكرة الانتفاضة السورية، حيث استثمر تنظيم القاعدة بروز الحالة الجهادية في سورية بالعمل على تأسيس فرع للقاعدة في بلاد الشام، عندما بدأ الجهاديون بالتوافد إلى سورية بتنسيق مع تنظيم القاعدة المركزي، وبإشراف مباشر من الفرع العراقي، دون الإشارة إلى علاقة النصرة بالمركز أو الفرع العراقي، تجنبا للأخطاء التي وقع فيها التنظيم في العراق، وتعمية على الأجهزة الاستخبارية، ولتيسير العمل مع الفصائل المسلحة الأخرى.
ولذلك كانت الهوية الإيديولوجية للنصرة ملتبسة منذ تأسيسها، فهي تتوافر على سلطتين مرجعيتين ومنهجين مختلفين، أحدهما ينتمي إلى نهج تنظيم القاعدة المركزي السياسي، وتكيفاته الأيديولوجية، عقب ثورات الربيع العربي التي تستند إلى حروب "الأنصار"، وثانيهما نهج الفرع العراقي الهوياتي، الذي يتمتع بنوع من الاستقلالية النسية، ويتمسك بموضوعة حروب "الهوية".
التباس هوية جبهة النصرة ظهر جليا منذ الإعلان رسميا عن تأسيسها من خلال تسجيل مرئي بعنوان "شام الجهاد"، بتاريخ 24 كانون ثاني/ يناير2012، على الرغم من وجود التنظيم منذ شهر تموز/ يوليو 2011، دون تسمية، فالتسمية الأولية، التي ظهرت في شريط الإعلان عن التنظيم الجديد، تشير بوضوح إلى التباس هوية التنظيم، وانتمائه، وتردده بين المركز والفرع، فقد أطلق على نفسه "جبهة النصرة لأهل الشام: من مجاهدي الشام في ساحات الجهاد"، وحافظ في بياناته المتتالية على هذه التسمية الطويلة، ويبدو أنه كان يرغب في بداياته باستقطاب الجهاديين من بلاد "الشام" بصورة أساسية، وهو ما ظهر جليا من خلال اجتذاب جهاديي بلاد الشام، التي تضم سورية والأردن ولبنان وفلسطين.
لقد أظهرت جبهة النصرة منذ تأسيسها المزيد من البراغماتية، وأخذت تبتعد أكثر عن الفرع العراقي للقاعدة، وتقترب بصورة جلية من نهج القاعدة المركزي الجديد وتكيفاته الموسومة بـ"أنصار الشريعة"، إلا أن الولايات المتحدة لم تحفل بتكيّفات النصرة وتحولاتها، فقد أدرجتها على لائحة الإرهاب في 11 كانون أول/ ديسمبر 2012.
وعلى مدى سنوات من تأسيسها، حافظت جبهة النصرة على نهج يقوم على الحفاظ على علاقات ودية مع كافة فصائل الثورة السورية، وتجنبت الصدام مع كافة القوى المحلية والإقليمية والدولية، وقدمت تطمينات عديدة بعدم فرض رؤيتها حول مستقبل سوريا واعتماد منهج الشورى في تدبير الخلافات وإدارة المناطق المحررة، والحرص على تقديم الخدمات والإغاثة للجميع، وعدم الانفراد في تحديد شكل الحكم، وتأجيل موضوعة تطبيق الحدود وإقامة الشريعة، إلا أن ذلك لم يفلح في إعادة النظر بالتعامل مع النصرة كحركة إرهابية.
إحدى أهم المسائل التي أثارها الجولاني تتعلق بالعلاقة مع تنظيم القاعدة، وهي تؤشر على تحول لافت، فعلى الرغم من تأكيد الجولاني على ارتباط النصرة بالقاعدة، ونفيه ضمنيا مسألة فك الارتباط معها، إلا أن تصريجات الجولاني تقطع مع الإيديولوجيا التاريخية للقاعدة بأولوية قتال العدو البعيد، فأجندة القاعدة تهدف منذ الإعلان عن تأسيس "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" عام 1998، إلى قتال الغرب عموما، والولايات المتحدة خصوصا، باعتبارها حامية للأنظمة العربية الاستبدادية، وراعية لحليفتها الاستراتيجية إسرائيل المغتصبة لفلسطين من جهة، والسعي لتطبيق الشريعة وإقامة الخلافة من جهة أخرى.
فمواجهة الغرب، ورفع الهيمنة الخارجية، والتصدي للاستبداد، وتمكين الشريعة داخليا، هما ركنا القاعدة الأساسيين، لكن الجولاني يستند إلى التخلي عن سردية القاعدة إلى زعيم القاعدة أيمن الظواهري، فقد أكد الجولاني على أن النصرة "تعمل وفق "التوجيهات التي تأتينا من الدكتور أيمن".
وفي توجيهات مناقضة لنهج قاعدة بن لادن المعروفة، التي أكدتها وثائقه الأخيرة التي نشرتها وكالة الاستخبارات الأمريكية مؤخرا بضرورة التركيز على استهداف الولايات المتحدة والغرب وعدم الانشغال بالعدو القريب، قال الجولاني: "جاءتنا إرشادات بعدم استخدام الشام لشن عمليات ضد الغرب"، لكنه شدد على أن "الخيارات مفتوحة إذا استمرّ قصف التحالف.. إذا استمر الوضع هكذا، فهذا ليس في مصلحة الغرب".
استند الجولاني إلى الظواهري في تبرير تحولات النصرة، ففي رسالة تطمينية إلى الغرب أكّد على أن توجيهات الظواهري تقضي "أن النصرة مهمتها إسقاط النظام ورموزه وحلفائه، والتفاهم مع الفصائل لإقامة حكم إسلامي راشد"، وهو نهج جديد يكشف عن تحولات كبيرة طالت فرع القاعدة في بلاد الشام، والتي تناقض سلوك القاعدة التاريخي وفروعه الإقليمية، كما هو حال فرع القاعدة في جزيرة العرب، الذي لا يزال متمسكا باستهداف الغرب والولايات المتحدة، والذي شن هجمات خارجية عديدة، كان آخرها هجمات الأخوين كواشي في باريس، وكما هو حال فرع القاعدة في الصومال، الذي شن هجمات خارجية في أوغندا وكينيا مؤخرا.
وإذا كانت النصرة تمثل الفرع الإقليمي للقاعدة في بلاد الشام، فإن عملها واستهدافها لا يقتصر على سوريا، بل بشمل كافة الدول الداخلة في التسمية التاريخية لبلاد الشام.
في سياق التحولات الكبرى لديناميكية الصراع السوري، بدا واضحا أن التعاون التركي السعودي القطري لإضعاف نظام الأسد، والحد من النفوذ الإيراني، يستدعي إعادة تعريف الاعتدال والتطرف للقبول، باستدخال جبهة النصرة، ودفعها نحو مزيد من التكيّفات المحلية، الأمر الذي تحقق عبر تأسيس "جيش الفتح" من عدة فصائل إسلامية مسلحة (جبهة النصرة، وأحرار الشام، وجند الأقصى، وجيش السنة، وفيلق الشام، ولواء الحق، وأجناد الشام) في ريف إدلب شمال غربي سوريا لتحرير محافظة إدلب من قبضة قوات النظام السوري، في 24 آذار/ مارس 2015، وهو ما تحقق سريعا بعد أربعة أيام بتحرير إدلب في 28 آذار/ مارس 2015.
وعلى الرغم من تأكيد زعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني، في تسجيل صوتي عنوان "نصر من الله وفتح قريب"، صدر في 1 نيسان/ أبريل 2015، على بعث رسائل تطمينية بأن الجبهة لا تسعى إلى حكم مدينة إدلب بعد أن سيطرت عليها المعارضة المسلحة، وأنها تقبل حكما على أساس الشورى، إلا أن كلمته حملت تهديدا مبطنا وظاهرا للداخل والخارج، كما حذر من السعي وراء الغرب، لكن الجولاني يؤكد في لقاءئ الأخير على الديناميكية الجديدة للاعتدال وأسس الاستدخال.
فبحسب الجولاني، فإن ثمة "غرفة عمليات تقرّرت تسميتها جيش الفتح"، وهو "قائم على الشورى، لا يوجد فصيل واحد يقوده، مؤكدا على أنّه "لا أحد يستطيع إخراجنا من جيش الفتح، فجبهة النصرة ليست عنصراً هامشيّاً في الساحة، وهي رأس حربة، والجميع يعلم ذلك".
تعكس تطمينات زعيم جبهة النصرة الجولاني للغرب بعدم اتخاذ سوريا نقطة انطلاق لشن هجمات خارجية، وعدم التفرد بالحكم والسلطة، ومسألة التعامل مع الأقليات، عن متطلبات الاستدخال وصعوبتها البالغة، ففي الوقت الذي تراهن فيه قوى إقليمية عن إمكانية خلق تحولات داخل النصرة ودفعها نحو مزيد من البراغماتية والاعتدال، لا تزال الولايات المتحدة والغرب تصر على طبيعة جبهة النصرة الإرهابية واستحالة الاستدخال، الأمر الذي يفسر اتهام الجولاني للولايات المتحدة بـ"النفاق ومساندة النظام"، كما يفسر الدعم الإقليمي لمنظومة "جيش الفتح" حملة الجولاني الشعواء على إيران وأذرعها وخصوصا حزب الله، فقد أكد على أن الحرب موجّهة في الدرجة الأولى ضد "نظام الأسد، وحزب الله، فزوال الأسد يعني زوال حزب الله".
وفي سياق مغاير لنهج النصرة، يشدد الجولاني على أن قتاله لا يقوم على أساس طائفي، بل يقع في إطار سياسات "دفع الصائل"، إذ يقول: "نحن لا نقاتل إلا من يرفع علينا السلاح.. العلويون تورطوا، حربنا ليست طائفية، رغم أنهم ليسوا طائفة من أهل الإسلام"، كما أن "هناك قرى درزية لم تقاتلنا، ونحن لم نقاتلها، رغم أنها موجودة في المناطق المحررة.. فقط أرسلنا إليهم من يصحح عقائدهم"، وبخصوص الطوائف المسيحية قال الجولاني: "النصارى أغلبهم في صف النظام.. لو أردنا أن نقيم فسيخضعون، القادر يدفع الجزية".
خلاصة القول أن لقاء الجولاني مع قناة "الجزيرة" كشف عن حدود الاعتدال التي يمكن أن تصلها جبهة النصرة، وعن قبول التحالف الإقليمي الجديد لدور النصرة في سوريا مرحليا، ومحاولة دفعها لمزيد من البراغماتية والتكيّفية المحلية السورية؛ تمهيدا لمحاولة استدخالها دوليا، إلا أن الولايات المتحدة تصر على استحالة استدخال النصرة لاعبا رئيسيا في سوريا ما بعد الأسد.
ولذلك فإن تصريحات الجولاني خيبت آمال أنصار التيار الديمقراطي المدني السوري، التي ترغب بتحقيق تحولات جذرية تقطع مع الخطاب الجهادي وأيديولوجيته السلفية المتصلبة المتعلقة بالدولة والمجتمع وقضايا الديمقراطية والتعددية والمواطنة، باعتبارها تقع في دائرة الكفر والردة.
أما بالنسبة إلى التيار الجهادي المرتبط بتنظيم القاعدة، فإن تصريحات الجولاني تعدّ تحولا كبيرا ونقلة مذهلة في أبجديات البناء الإيديولوجي التاريخي لتنظيم القاعدة الذي تقوم أولوية قتال "العدو البعيد"، ممثلا بالغرب عموما، والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا، باعتبارها "رأس الأفعى" وأصل الشر.