تلاقي مقولة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر عن "حرب المائة عام" بين السنة والشيعة، رواجا كبيرا في تفسير الصراعات القائمة في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في العراق وسوريا واليمن ولبنان، إذ إن العنوان الأبرز لها هو "الحروب الطائفية"، بحسب باحثين ومحللين.
يذهب أحد المعلقين على "نظرية كيسنجر" إلى القول بأن الذي "يمكن الولايات المتحدة الأمريكية ومعها حليفتها إسرائيل من أن تفرض هيمنتها على منطقة مجزأة، تشتعل فيها الحروب المذهبية والطائفية والإثنية هو تأجيج الخلاف العقائدي بين
السنة والشيعة".
يعكس ذلك التفسير المزاج السائد في المنطقة، الذي ينظر إلى المعارك المشتعلة في مناطق مختلفة من جغرافيا العالم العربي بخلفياتها ودوافعها "الطائفية" باعتبارها تخطيطا ماكرا، أو توظيفا ذكيا لورقة الطائفية للوصول إلى ما تسعى إليه إسرائيل من إضعاف الدول العربية وتفتيتها عرقيا ودينيا ومذهبيا.
ووفقا للأكاديمي الأردني الباحث في الشؤون الإيرانية، الدكتور نبيل العتوم، فإن الشرق الأوسط يمر بمرحلة غير مسبوقة من الحروب الطائفية، مشددا على ضلوع أمريكا في تأجيج نيرانها.
واعتبر العتوم الحرائق المشتعلة في الشرق الأوسط هي تماما كما وصفها هنري كيسنجر بالحروب الدينية الطائفية، على غرار حرب المائة عام بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا أواخر القرن السادس عشر، لكنها أكثر توسعا منها.
وقال العتوم لـ"
عربي21": "إن أمريكا ساهمت في صناعة هذه الحروب حين أسقطت النظام
العراقي السابق، وحلها للجيش العراقي وتسليمها العراق لإيران"، مؤكدا أن أمريكا أجادت اللعب على وتر المذهبية والطائفية مسهمة في تأجيجها، وأن كل ما يجري ما هو إلا ترجمة لما أسموه بـ"الفوضى الخلاقة".
وحول قراءته المستقبلية للمشهد في المنطقة، رأى العتوم أن هذه الصراعات بصبغتها الطائفية من جنس الصراعات العابرة للحدود والمنذرة بتفجير الأوضاع الداخلية برمتها في الدول التي تشتعل فيها، وهو ما يؤدي إلى استنزاف مقدرات تلك الدول وإضعاف اقتصاداتها وذهاب استقرارها.
أعداء الأمة ليسوا أبرياء ولكن..
برؤية مغايرة لاعتبار أن ما يجري في العالم العربي تجليات وتداعيات للحروب الطائفية، رأى الكاتب والمفكر المصري فهمي هويدي "أن التعميم الذي أطلقه كيسنجر في مقولته السابقة ليس دقيقا، إذ إنه ليس كل ما يجري في العالم العربي هو بسبب الطائفية.."، مشبها العالم العربي بسفينة متهالكة تسير بغير ربان.
وأوضح هويدي في حديثه لـ"
عربي21" أن ثمة مشكلات داخلية في العالم العربي، من أبرزها غياب الرؤية الاستراتيجية، وهو ما يلاقي هوى في الخارج، فأمريكا وإسرائيل ترحبان بما يجري في العالم العربي من حروب وصراعات مدمرة.
وأشار هويدي إلى أن العالم العربي يمر بحالة من الضعف والهزال الشديد، وصلت إلى درجة متهاوية لو سعى إليها خصم من خصومها لما وصل بها إلى هذه الحالة المزرية جدا.
وردا على سؤال حول مدى توظيف أمريكا وإسرائيل للورقة الطائفية، قال هويدي: "أعداء الأمة بالتأكيد ليسوا أبرياء، والعرب بالتأكيد ليسوا أذكياء"، مضيفا أن "هزالنا وضعفنا هو الذي مكنهم منا، فإسرائيل لم تكن تحلم يوما في أن يحدث في العالم العربي ما يحدث هذه الأيام".
بدوره رأى الباحث السياسي الأردني خالد عبد الهادي أنه لا بد من التأكيد في غمرة الصراعات المحتدمة في العالم العربي على أن العدو الأساسي في المنطقة هو إسرائيل، مقرا في الوقت نفسه بوجود صراع مع إيران لكنه صراع سياسي.
ووفقا لعبد الهادي، فإن ثلاثة مشاريع كبرى تتصارع في منطقة الشرق الأوسط، هي الإسرائيلي والتركي والإيراني، من غير أن يكون للعرب أي مشروع يُذكر بين تلك المشاريع المتصارعة في المنطقة، متوقفا عند الإدارة الجديدة في
السعودية التي تعاملت مع الأحداث بطريقة حازمة.
وردا على سؤال "
عربي21" حول توظيف الولايات المتحدة الأمريكية للورقة الطائفية، فقد أكدّ عبد الهادي أن المهم بالنسبة لأمريكا هو المحافظة على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة المتمثلة، بحفظ أمن إسرائيل والمحافظة على ثروة النفط، وهي لن تتردد في توظيف كل الأوراق والأدوات الممكنة من أجل تحقيق ذلك.
التحذير من انتشار سرطان "الحروب الطائفية"
لئن كانت بعض الدول العربية قد اصطلت بنيران الطائفية المحرقة، وتجرعت غصصها المريرة، كما في الحالة العراقية والسورية واليمنية، فإن نيرانها آخذة بالتمدد صوب مجتمعات ما زالت بعيدة عن حرائقها كما في الحالة السعودية.
فبعد التفجير الذي استهدف مسجدا للشيعة في بلدة القديح بمحافظة
القطيف شرق المملكة، خلال أداء صلاة الجمعة في 22 أيار/ مايو، والذي أسفر عن سقوط ما لا يقل عن 21 قتيلا و50 جريحا، فقد ارتفعت الأصوات المحذرة من "جر السعودية إلى مستنقع الفتن والحرب الطائفية".
تبع تفجير القطيف في الجمعة التالية، تفجير آخر استهدف جامع الإمام الحسين بحي العنود في مدينة الدمام السعودية، أودى بحياة أربعة مواطنين، وجرح أربعة آخرين، وكلا التفجيرين أعلن تنظيم الدولة تبنيه لهما، الأمر الذي أثار تخوفات واسعة من انتشار سرطان الجنون الطائفي في السعودية.
ففي الوقت الذي استنكر فيه المسؤولون السعوديون، وكثير من الرموز الدينية والوطنية والفكرية، التفجيرين المذكورين محذرين من "ضرب اللحمة الوطنية بين جميع أبناء المملكة، وإشاعة أجواء الفرقة والكراهية والطائفية البغيضة"، فإن ثمة تذمرا شديدا في الأوساط الشيعية يتهم الدولة بـ"التقصير في حماية القرى الشيعية"، بحسب تقارير صحفية.
تعليقا على تلك الأحداث والتخوفاتـ قال الدكتور صدقة فاضل، رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الملك عبد العزيز سابقا، وعضو مجلس الشورى السعودي: "لا بد من القضاء على العنصرية الطائفية نهائيا في مجتمعنا السعودي، وذلك بسن قوانين تجرم العنصرية الطائفية خاصة، والعنصرية الدينية عامة..".
وأضاف صدقة في حديثه لـ"
عربي21": "وتجرم أي مفردات تصب في تأجيج هذه العنصرية القذرة ومعاقبة أي عابث بوحدتنا الوطنية، سواء كان خطيبا على المنبر، أم قلما في صحيفة أو أي منبر إعلامي، فكل من يروج للطائفية المذهبية فهو يخدم بعلم أو بجهالة من يريد أن يزرع الفوضى في مجتمعنا".
ودعا صدقة إلى "العمل لنشر مفهوم ثقافة المواطنة"، مشددا على أن "أمن وسلامة شركائنا في الوطن من الطوائف المذهبية الأخرى واجب ديني ووطني" محذرا من "إسقاط ما يحدث في المجتمعات العربية من صراعات مذهبية على بيئتنا السعودية، وهذا لا يتحقق إلا بقرار سياسي".
يبقى القول إن الخلافات السنية الشيعية خلافات عقائدية وتاريخية قديمة، لكن ما يبعثها بين الحين والآخر ويؤجج نيرانها هي الأجندات السياسية المتصارعة في المنطقة، التي تجد في تلك الورقة الطائفية بابا واسعا لتحقيق أهدافها المحددة بعناية.