رغم أن
الأحداث المتعاقبة بررت معارضة الحرب على
العراق، إلا أن تلك
المعارضة كانت تعني دمار مستقبل الإنسان الوظيفي داخل
الحكومة البريطانية.
إن أكبر لغز يحيط بمؤسسة الحكم البريطانية (والتي يطلق عليها مجازاً ويستمنستر) هو تمكن تيار المحافظين الجدد من البقاء على قيد الحياة، وذلك بالرغم من أن معظم المراقبين كانوا سيتنبؤون، وبدرجة عالية من الثقة، بأن هذه الحركة ستتعرى لا مفر وستفقد صدقيتها تماما بعد العواقب الكارثية لغزو العراق.
ورغم ذلك، فإنها ما تزال تتمتع بصحة جيدة، وما يزال الرجال والنساء الذين أضرموا نار الحرب وحرضوا على غزو العراق يهيمنون على الحياة السياسية ويديرون شؤون الحياة في
بريطانيا بينما ما يزال الذين عارضوا الحرب مهمشين ومحتقرين.
وها هم أتباع تيار بلير يظهرون من جديد داخل حزب العمال ويهيمنون داخل حكومة المحافظين، وبالفعل لقد أثبت دافيد
كاميرون أنه لا يقل انتسابا إلى تيار المحافظين عن طوني بلير نفسه.
فقد هاجم ليبيا (وكان لذلك عواقبه الكارثية) وكان سيقصف سوريا لو لم يحل البرلمان بينه وبين ذلك.
وليس هذا كل شيء. فحلفاء السيد كاميرون الرئيسيون هم من المحافظين الجدد. مايكل غوف، الذي كان أحد المغالين في تأييد الحرب على العراق، بات الآن أقدم الأصدقاء السياسيين لرئيس الوزراء.
كتاب غوف الأكثر مبيعا، وعنوانه 7/7 مئوية، لعب دورا مهما في الترويج لأفكار المحافظين الجدد في أوساط العامة داخل بريطانيا.
أما وزير المالية الحالي جورج أوزبورن، الذي يعتبر أقرب المقربين إلى رئيس الوزراء من بين حلفائه، ويتوقع كثير من الناس أن يخلفه في هذا المنصب، فهو محافظ جديد بكل ما تعنيه الكلمة ولديه ارتباطات بالجناح اليميني في الحزب الجمهوري.
وهناك أيضا إيان دنكن سميث، الذي كان زعيم حزب المحافظين أيام الحرب على العراق وأحد أشد المؤيدين لها، ويعتبر رمزا من رموز اليمين.
وأما طوني بلير فما يزال واحدا من أكثر مستشاري دافيد كاميرون حظوة عنده ومن أكثرهم ثقة لديه، وخاصة في موضوع السياسة الخارجية.
بات صعود المحافظين الجدد تاما، وكان في الماضي ثمة حضور واثق داخل حزب المحافظين في ويستمنستر لعناصر متشككة في التوجهات والأيديولوجيات ذات الطبيعة الصليبية.
ما يزال هناك من يمثل هذا التيار، ومنهم النائب المفوه عن حزب المحافظين جيسي نورمان الرائع أندرو تايري، الذي ناضل نضالا مريرا من أجل الكشف عن حقيقة عمليات خطف وتهريب المشتبه بضلوعهم في الإرهاب وتنوير الرأي العام بها، إلا أن أمثال هؤلاء لا يحتلون مواقع تنفيذية ولا صوت لهم داخل الحكومة البريطانية.
كان حزب المحافظين في الماضي فيه رجال ونساء على درجة عالية من الاطلاع والفهم لما يجري في الشرق الأوسط، إلا أن هؤلاء جرى تهميشهم.
خذ على سبيل المثال البارونة سيدة وارسي وألان دنكن، المتعاطفين جدا مع الفلسطينيين، واللذين كانا وزيرين في الحكومة الائتلافية.
لقد بات كلاهما الآن بلا وظيفة، ويعتقد بأن ما يزيد عن نصف أعضاء الحزب من البرلمانيين ينتمون إلى تجمع أصدقاء "إسرائيل" داخل حزب المحافظين، وكم هو معيب ألا يوجد حتى الآن تجمع لأصدقاء فلسطين داخل حزب المحافظين.
لقد تكبد الأحرار الديمقراطيون في الانتخابات الأخيرة خسارة هائلة كادت تأتي على وجودهم بأسره، وهؤلاء عارضوا غزو العراق وكان لديهم موقف معتدل ومنصف تجاه الصراع "الإسرائيلي" الفلسطيني.
وأما يسار حزب العمال فهو في حالة احتضار، ولا يعتقد بأن زعيم هذا التيار النائب جيريمي كوربن سيحالفه النجاح في المنافسة الوشيكة على زعامة حزب العمال.
وولم يتحسن وضع المتمردين داخل حزب المحافظين ممن عارضوا غزو العراق، مثل النائب صاحب الذهنية والمواقف المستقلة (والجندي السابق) جون بارون.
رغم أن الأحداث المتعاقبة أثبتت صحة المواقف المعارضة للحرب على العراق، إلا أن تلك المعارضة كانت تعني أفول نجم المعارضين داخل الحكومة البريطانية وكانت تكلفهم مناصبهم ووظائفهم.
لا يقتصر الأمر على كون ذلك ظلماً وإجحافاً، بل إنه لأمر محير فعلاً. لا يوجد أدنى شك في أن العراق كان أكبر مصيبة تمنى بها السياسة الخارجية البريطانية منذ توقيع نيفيل تشامبرلين على صفقة مع أدولف هتلر في ميونيخ في عام 1938 عاد بعدها إلى لندن ليعلن عن إحرازه "السلام في زمننا".
لم يلبث رجال صفقة ميونيخ طويلا حتى نزل بساحتهم محق سياسي عارم، لعله أقل مما كانوا يستحقون، أما رجال الحرب على العراق فتراهم قد ازدادوا قوة وازدهارا، ورغم أن عواقبها الرهيبة باتت اليوم أوضح من أي وقت مضى بفضل صعود تنظيم الدولة الإسلامية، لا نكاد نرى مقدار ذرة من تقدير أو مكافئة داخل بريطانيا للذين عارضوا الحرب.
ولم لا؟، الأسباب بالغة التعقيد، ولا يوجد إدراك كاف بعد لمدى عمق العلاقة ما بين زعماء المحافظين في بريطانيا واليمين الجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية، وما تزال الصحافة (وخاصة التلغراف ونيوز إنترناشينال) منحازة بغلو شديد تجاه المحافظين الجدد، وأهم ما في الأمر على الإطلاق هو سلطة الأفكار.
ما من شك في أن الصعود المستمر للمحافظين الجدد في تحد سافر للحقائق على الأرض إنما هو نتاج تحضير فكري تم بعناية فائقة، ومن هنا تأتي أهمية التقرير الخاص بجمعية هنري جاكسون، والذي أعدته مؤسسة سبين واتش بناء على تكليف من مؤسسة قرطبة.
لقد ساعدت منظمات مثل جمعية هنري جاكسون على الإبقاء على حياة مذهب بوش، بما يعنيه من التدخل الاستباقي والعداوة البنيوية للقانون الدولي والإصرار بلا ورع (في مواجهة الدليل المتراكم على عكس ما ذهب إليه)، على فكرة التفوق الأخلاقي للولايات المتحدة الأمريكية.
ومن المفارقات العجيبة أن مثل هذه المعتقدات باتت أكثر رسوخا لدى النخبة الحاكمة في بريطانيا منها في واشنطن.
يتعقب مؤلفو التقرير جذور جمعية هنري جاكسون إلى كلية بيترهاوس في جامعة كامبريدج خلال السنوات الأولى من هذا القرن، ويسلطون الضوء بشكل خاص على تأثير بريندان سيمس، المؤرخ الألمعي الشاب الذي نافح عن فكرة تدخل الغرب عسكرياً في البوسنة.
ويبين التقرير كيف بدأت الجمعية في مد نفوذها في أواخر عام 2005 إلى داخل ويستمنستر.
كنت آنذاك المحرر السياسي لمجلة سبكيتاتور، وحضرت العشاء الذي شهد تدشين الجمعية، كثيرون من الذين حضروا كانوا جزءا من الدائرة المصغرة المحيطة بدافيد كاميرون (يذكر أن إعلان المبادئ المؤسسة للجمعية وقعه كل من إد فايزي ونيك بولز ومايكل غوف).
يبين مؤلفو التقرير كيف غيرت جمعية هنري جاكسون من توجهها، فهي اليوم لم تعد تركز على تبرير فكرة التدخل الليبرالي بقدر ما تركز على مناهضة ما تسميه بالتطرف الإسلامي.
وما من شك في أن جمعية هنري جاكسون تتحمل نصيبها من المسؤولية عن خطاب حكومة كاميرون تجاه الإسلام والذي تبلور من خلال أجندة مشروع بريفينت (احظر أو امنع) الذي يستهدف منع الناس من الانضمام إلى الجماعات المتشددة.
تؤكد مؤسسة سبين واتش، أن نوعا من الانقلاب وقع داخل جمعية هنري جاكسون، فقد غادرها بعض مؤيديها الأوائل بينما برز فيها كشخصية نافذة وقوية دوغلاس مري (وهو مجادل موهوب وناقد حاد للإسلام السياسي).
وكانت جمعية هنري جاكسون قد حققت نجاحا مهما حينما سمح لها بالقيام بمهام السكرتاريا للجنة الأمن الوطني داخل البرلمان، (ولكنها لم تلبث أن فرض عليها التخلي عن هذه المهمة، فيما يبدو بسبب ترددها في الإعلان عن هوية ما يمولها).
وفي لحظة أخرى بالغة الأهمية بالنسبة لجمعية هنري جاكسون، عين دافيد كاميرون وليام شوكروس، أحد أمناء الجمعية، رئيسا لمفوضية الجمعيات الخيرية، وكان في عام 2012 قد ادعى بوصفه أحد مدراء جمعية هنري جاكسون المحافظة بأن "أوروبا والإسلام هي واحدة من أكبر المشاكل التي يواجهها مستقبلنا ومن أكثرها رعبا.
وأظن أن جميع البلدان الأوروبية أصبح فيها تجمعات سكانية إسلامية كبيرة وسريعة جدا في النمو".
ثمة دليل على أنه سرعان ما بدأ يطبق نسخة من أجندة جمعية هنري جاكسون على الواقع العملي داخل مفوضية الجمعيات الخيرية.
وفي نهاية عام 2014 استنتج تحليل لصحيفة الغارديان بأن "أكثر من ربع التحقيقات التي أجرتها المفوضية منذ أبريل / نيسان من عام 2012 وما تزال جارية كانت تستهدف المنظمات الإسلامية (وكان قد صدر عن المفوضية رد على اتهامات وجهت إليها بهذا الصدد نفت من خلاله نفيا قاطعا أن تكون قد استهدفت المسلمين بشكل خاص).
إلا أن الأهم من ذلك كله هو أن جمعية هنري جاكسون ساعدت في الإبقاء على مناخ من الأفكار ساهم إلى حد كبير بأن يكون على رأس الحكومة البريطانية بعد ما يقرب من عقد على كارثة الحرب على العراق رئيس وزراء ينتمي إلى تيار المحافظين الجدد.
حينما كنت طالبا في البكالوريوس في جامعة كامبريدج في سبعينيات القرن الماضي، كان يدير قسم التاريخ فيه كلية بيترهاوس موريس كاولينغ (المعلم الفذ)، الذي كرس وقت فراغه لإنجاز أبحاث مضنية حول العلاقة بين الأفكار والسياسة.
ليس لدي أدنى شك في أن كاولينغ كان سيستمتع بقراءة التقرير الذي أعدته سبين واتش، وكان بشكل خاص سينال إعجابه الأسلوب الذي تمكنت من خلاله مجموعة من أكاديميي جامعة كامبريدج من تجميع باقة من المبادئ الفلسفية ثم سخرتها لأغراضها في الساحة الوطنية.
ليست جمعية هنري جاكسون على الإطلاق المنظمة الوحيدة التي لعبت دورا في تشكيل الانطباعات الرسمية عن الإسلام في بريطانيا اليوم، من المنظمات التي كان لها تأثير أكبر في هذا المجال تلك التي تسمى بوليسي إكستشانج (وهي عبارة عن مركز بحث وتفكير قريب جداً من رئيس الوزراء، وكانت موضوع تقرير أعدته من قبل سبين واتش أيضا).
أعتبر شخصيا أن الكثير من الأفكار التي ترتبط بها جمعية هنري جاكسون مريبة من الناحية النظرية وكارثية في الواقع العملي، ومع ذلك ثمة دروس مهمة يمكن أن يتعلمها المرء من الدراسة التي أعدتها مؤسسة سبين واتش، وهي مفيدة بشكل خاص لخصوم مثل هذا التيار.
لقد تمت مكافأة جمعية هنري جاكسون على تناولها الأفكار والتعامل معها بشكل جدي، ولقد كرست هذه الجمعية بالفعل وقتا وجهدا وتنظيما ومالا لنشر ما تؤمن به من أفكار، ربما توجب على من يرغبون في إنقاذ حزب المحافظين مما آلت إليه أوضاعه بعد وقوعه في شباك المحافظين الجدد أن يحذوا حذو هذا النموذج.
بيتر أوبورن: فاز بجائزة الصحافة الممنوحة لكتاب الأعمدة في عام 2013، وكان قد استقال مؤخرا من موقعه كمحرر سياسي رئيسي في الديلي تلغراف. له عدة مؤلفات منها كتاب بعنوان "انتصار الطبقة السياسية: صعود الكذب السياسي" وآخر بعنوان "لماذا الغرب مخطئ بشأن إيران النووية".