كتب فهمي هويدي: من المدهش أن المناقشات الدائرة حول الأزمة السورية تتطرق إلى عناوين كثيرة ليس من بينها عذابات الشعب السوري ومصيره.
(1)
حين دعي بعض الصحفيين المصريين لزيارة
سوريا ورتب لهم النظام جولة في بعض المراكز الإدارية بالمحافظات التي يسيطر عليها، فإن ذلك أنساهم أن في البلد مذبحة مستمرة منذ أربع سنوات وهي الآن في عامها الخامس. هم لم يكونوا وحيدين في ذلك، لأنه منذ تمددت جماعة
داعش في سوريا بعد العراق، ولفتت الأنظار وأشاعت المخاوف بممارساتها ونظامها الذي فرضته، فإن ذلك صرف الانتباه عن الجريمة الأصلية والمذبحة المستمرة التي تخللتها بشاعات تفوق بكثير ما أقدمت عليه وأعلنته داعش على الملأ.
في الوقت نفسه فإن داعش بدت وكأنها طوق النجاة للنظام، بل وهدية كبرى لإسرائيل أيضا، فقد اعتبر النظام نفسه مهددا من قبل "الإرهاب" وضمت إسرائيل نفسها إلى المعسكر المقاوم للإرهاب، ونسى الجميع إرهاب نظام الأسد الذي هو أصل الداء ومصدر البلاء، كما نسوا إرهاب إسرائيل التي تفوقت على داعش في جرائمها.
ثم حين انفجرت قضية اللاجئين التي صدمت الأوروبيين وأربكتهم، وكان للسوريين الحصة الأكبر منهم، فإن أوروبا والعالم الغربي شغلوا باستقبالهم واحتوائهم، ولم يتوقف كثيرون أمام حقيقة مأساتهم والجحيم الذي فروا منه، حتى فضلوا التعرض للموت غرقا على البقاء في ظل عذاباته.
إزاء ذلك غدا التذكير بالحقائق المنسية للمشهد السوري واجبا، قبل التطرق إلى مآلاته ومستجداته التي طرأت خلال الأسابيع الأخيرة،. إذ طبقا للمرصد السوري لحقوق الإنسان فإن حصيلة السنوات الأربع الماضية يمكن التعرف عليها من خلال المعلومات التالية: أكثر من نصف الشعب السوري تحولوا إلى نازحين.
عددهم الآن 14 مليونا، منهم خمسة ملايين تركوا بلادهم وتوزعوا على الملاجئ والمنافي والباقون تشردوا في وطنهم ــ 300 ألف شهيد قتلوا خلال تلك الفترة ــ 600 ألف معاق ــ 300 ألف في السجون ــ 70 بالمئة من العمران في سوريا تم تدميره ــ من بين ما دمر 4000 مدرسة و3 ملايين بيت إضافة إلى 2000 مسجد و40 كنيسة ــ 200 أسرة تغادر دمشق يوميا بسبب سياسة التطهير العرقي التي تستهدف إخلاء المدينة من أهل السنة الذين يمثلون 80 بالمئة من السوريين (العلويون 9 بالمئة والمسيحيون 5 بالمئة والباقون يتوزعون على أقليات أخرى الدروز على رأسهم).
(2)
هذا الكم الهائل من الجثث والأشلاء والأحزان التي تعوم في بحر من الدماء، وذلك الخراب الذي عم البلاد من أقصاها إلى أقصاها يجري التستر عليه بهالة من الادعاءات وأوهام الثبات والقوة. وهي الدعاوى التي يراد لها أن تقنع العالم الخارجي بأن النظام القائم هو قدر سوريا المكتوب، وأن شعار "الأسد إلى الأبد" لا يزال يمثل القاعدة المهيمنة التي لم تتزحزح، ومنذ لاح تنظيم داعش في الأفق فإن النظام تلقف الهدية ووظفها لخدمة استمراره، ومن ثم أعاد في ظلها صياغة المشهد لطمس الحقيقة وإنكار فكرة ثورة الشعب ضد استبداده، وهو ما سوغ إطلاق فكرة الحرب ضد الإرهاب التي كان لها رنينها والاحتفاء بها في بعض الدوائر العربية والدولية.
على الأرض كان الموقف مختلفا، ذلك أن النظام أوقف عملياته الهجومية على الأرض، واكتفى بقصف معارضيه بالبراميل المتفجرة، كما أنه أصيب بانتكاسات عسكرية كبيرة، حيث فقد السيطرة على بعض جبهات الشمال، بعد خسارته لكل محافظة إدلب تقريبا، وهو ما حدث في الشرق (تدمر) وبدرجة أو أخرى في الجنوب (درعا).
كما تحدث الرئيس السوري علانية عن صعوبة الموقف العسكري واضطرار قواته إلى التراجع من بعض المناطق، وفي هذه الأجواء تواتر الحديث عن تقسيم سوريا، وإقامة دولة علوية في منطقة الساحل تضم بعض الأقليات (المسيحيون والدروز مثلا).
ولم يكن الوضع الاقتصادي أفضل كثيرا من الوضع العسكري، إذ أدت ظروف الحرب واستيلاء داعش وتنظيم الدولة الإسلامية التابع لها على بعض مصادر الطاقة إلى تدهور الوضع الاقتصادي. ولولا الدعم المالي الذي تقدمه
إيران وروسيا للنظام القائم، وهما المصدران الأساسيان للدعم العسكري، لانهار النظام وسقط منذ ثلاث سنوات.
ثمة تحليلات تحدثت عن احتفاظ النظام السوري بالسيطرة على المراكز الإدارية للمحافظات، التي يستخدمها لدعم ادعائه بأنه يمثل كل سوريا. ولا يقل أهمية عن ذلك أيضا أن هذه المراكز هي وسيلة النظام الرئيسية للسيطرة على السكان، بما في ذلك مناطق المعارضة، الذين يعتمدون على الحكومة في توفير الخدمات ومختلف الوثائق الرسمية اللازمة (يزيد صايغ ــ الحياة اللندنية 17/9).
ورغم أن الساحة السورية باتت تعج في الوقت الراهن بالفصائل المقاتلة، المعارضة للحكومة والمؤيدة لها، ورغم الاعتماد السوري الكبير على الدعم الإيراني، إلا أن المتغير الأهم في الساحة يمثله في الوجود العسكري الروسي الذي تجاوز الإمداد بالسلاح إلى إرسال القوات وحاملات الطائرات، الأمر الذي يعد منعطفا جديدا للأزمة السورية من شأنه أن يغير من موازين القوة واستراتيجية المواجهة وتداعياتها.
(3)
إلى عهد قريب كانت إيران تقوم بالدور العسكري المباشر في سوريا، من خلال خبراء وعناصر الحرس الثوري وحزب الله، وكان الدور الروسي مقصورا على الإمداد بالسلاح والدعم السياسي في مجلس الأمن.
إلا أن التصعيد الأخير الذي تمثل في إرسال القوات جنبا إلى جنب مع البوارج وحاملات الطائرات، والانتشار في القاعدة البحرية في طرطوس ومطار اللاذقية وبالقرب من حماة بدا تطورا مثيرا يصب في مصلحة إطالة عمر النظام، ويثير العديد من التساؤلات حول دوافعه. في هذا الصدد تراوحت التحليلات بين سعي الرئيس الروسي إلى تحدي المحاولات الغربية لإضعاف بلاده، وبين حرصه على التأكيد على أن روسيا ليست مجرد قوة إقليمية في شرق أوروبا ولكنها لاعب عالمي مؤثر وطرف لا يمكن تجاهله في تقرير مصير الشرق الأوسط.
وإلى جانب الطموح التقليدي الروسي الذي يحرص على الوصول إلى المياه الدافئة (البحر الأبيض في هذه الحالة)، لا ينسى أن سوريا تعد المعقل الأخير لروسيا في الشرق الأوسط الذي تسعى للاحتفاظ به. إلى جانب ذلك فإن الوجود في سوريا يبعث بإشارة تذكير إلى بغداد التي تعول على الولايات المتحدة في مشتريات سلاحها. فضلا عن أن إسهام الرئيس بوتن في الحرب ضد الإرهاب الذي تمثله داعش في سوريا له دوافعه الخاصة، لأنه يواجه مشكلات مع الجماعات الإسلامية داخل الاتحاد الروسي ومن حوله. وهي الجماعات التي يقمعها نظامه، ويصنفها الإعلام الروسي في خانة الإرهاب.
وإذ لا يتوقع أحد أن تتم تلك الخطوة بعيدا عن التفاهم مع إيران والتنسيق معها، فإن الحضور العسكري الروسي في سوريا من شأنه أن يعزز الموقف الإيراني ليس في سوريا فقط، ولكن في لبنان والعراق أيضا بل وفي غير ذلك من الملفات العالقة في الشرق الأوسط.
مع ذلك فإن ذلك الحضور الروسي لا يخلو من مغامرة. ذلك أنه قد يفتح الباب لأفغنة سوريا، بمعنى استحضار المشهد الأفغاني في الحالة السورية، ومن المفارقات التي تذكر في هذا الصدد أن المجاهدين في أفغانستان استطاعوا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي أن يقلصوا السيطرة السوفيتية في بلادهم بحيث لم تتجاوز 20 بالمئة من الأراضي الأفغانية، وفي الوقت الراهن حين بدأت طلائع مشاة البحرية الروسية وخبراء الدفاع الجوي في الوصول إلى الساحل السوري، فإن المساحة التي يسيطر عليها نظام الرئيس الأسد فعليا لم تعد تتجاوز 20 بالمئة أيضا.
السؤال المطروح الآن كالتالي: بعدما عزز الروس وجودهم العسكري في سوريا، هل ستحاول الدول الغربية أو العربية الداعمة لفصائل المقاومة السورية تعزيز قدراتها لتمكنها من مواجهة ذلك التطور، هذا السؤال تردد في بعض الكتابات، متضمنا إشارات إلى احتمال تزويد المعارضة بصواريخ جو أو مضادات أرضية. وإذا ما حدث ذلك فإنه يعني استدراج روسيا إلى المستنقع السوري، والتورط في مواجهة تكرار التجربة السوفييتية الأليمة في أفغانستان.
(4)
الشعار المرفوع هذه الأيام هو "داعش أولا"، صحيح أن الدوافع والحسابات اختلفت لدى كل طرف، لكن النتيجة تظل واحدة، فالروس لهم دوافعهم التي تختلف عن الأمريكان، والدول العربية المشتبكة مع الإسلام السياسي تختلف في دوافعها عن الإسرائيليين، بل إن دوافع الإيرانيين ليست ذاتها دوافع النظام القائم في دمشق، حتى دوافع الداعين إلى إسقاط الأسد ونظامه، الأتراك والسعوديون مثلا، يختلفون في مقاصدهم.
إزاء ذلك فلعلي لا أبالغ إذا قلت إن الفائز الأول في المشهد حتى الآن هو نظام الرئيس بشار الأسد، رغم تهالكه، حيث لم يعد يعنيه سوى الاستمرار بأي ثمن. أما الخاسر الأكبر فهو الشعب السوري الذي سيطول انتظاره وستستمر عذاباته ما لم تحدث مفاجأة أو معجزة لم تكن في الحسبان. وإزاء انسداد الأفق على ذلك النحو يظل هتاف السوريين "ما إلنا غيرك يا الله" هو الخيار الوحيد الباقي.
ثمة مداولات حاصلة الآن حول الملف السوري في نيويورك، بمناسبة انعقاد دورة الأمم المتحدة، وفي حدود ما هو معلن حتى الآن فإن محورها يدور حول مصير الأسد ونظامه وكيفية القضاء على إرهاب داعش وأخواتها. لكن مصير الشعب السوري ظل خارج المناقشة وغير مدرج على جدول الأعمال، وهو ما يمثل تحديا واختبارا صعبا لفصائل المقاومة التي باتت بحاجة لأن تعيد النظر في استراتيجيتها وأساليبها، حيث أزعم أن ضعف المقاومة السورية كان ولا يزال أحد الأسباب التي أسهمت في تقوية مركز النظام القائم في دمشق.
في رأي الأستاذ هيثم المالح أحد شيوخ المحامين السوريين ومسؤول اللجنة القانونية لمكتب الائتلاف الوطني بالقاهرة أن المقاومة تتقدم على الأرض ولكن النظام يسيطر بطائراته على الفضاء، ولذلك فإن التكلفة البشرية عالية في الصراع الحاصل، وهو يعتبر أن النظام سقط بالفعل وليس فيه شيء مؤهل للبقاء، ولولا الدعم الخارجي لاختفى منذ زمن.
وحين سألته عن آفاق وفرص الحل السياسي فكان رده أن ذلك الحل لم يعد واردا إلا في أجندات القوى الخارجية، ولكن لا محل له على أجندة الشعب السوري، الذي يعتبر أن نضاله وصموده طوال السنوات الأربع الماضية فضلا عن الثمن الباهظ الذي دفعه، ذلك كله يوفر مسوغا كافيا لإغلاق باب الحديث عن أي حل سياسي مع النظام. في هذه الحالة فإن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو: ما هي حدود قدرة الشعب السوري على الصبر والاحتمال أكثر من ذلك؟
(عن صحيفة الشرق المصرية 22 أيلول/ سبتمبر 2015)