كتاب عربي 21

خيالات المآتة في الواقع العربي المنقلب

1300x600
كثيرون يستسهلون كلمة "التصهين العربي"، ولا ينتبهون إلى أنها تعني بكل وضوح: نهاية الظاهرة العربية، وليس فقط القومية العربية أو العروبة. وكثيرون يتلقون ببساطة مشاهد المرابطات والمرابطين من البنات والسيدات وكبار السن والأطفال حول المسجد الأقصى، وسط صمت شامل وغياب تام لأي مظاهر النصرة أو المؤازرة في العالم العربي والإسلامي، ولا يشعرون أنها تعني بكل ثقة انتهاء العمر الافتراضي لأنظمة حكم الأمة ومنظماتها التي يفترض أن تمثلها من الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وصندوق القدس وما إليه من مؤسسات لم تعد حتى تقوم بدور "خيال المآتة" في تخويف اللصوص أو من يحاول الاقتراب.

ليس ذلك بالجديد علينا، فعقلية الوهن ونفسية الهوان وروح الاستهانة والمهانة قابعة في بلادنا منذ زمن؛ منذ تسلط عليها سفهاؤها وجهالها وأضعفهم انتماء وولاء لها، منذ تأسست دول الاستعمار الوطني التي ورثت عن الاستعمار الأجنبي عداوة الأوطان والوطنيين، والتلاعب بالقومية والقوميين، وكذبات الوهم والخداع باسم التنمية والتحديث، ومنذ أن تكرس القمع الوحشي آلية وأداة ثابتة راسخة جامعة بين الأنظمة الحاكمة، فقد تختلف نظم الحكم عندنا في كل شيء؛ بين ملكي وجمهوري، أو رئاسي وبرلماني، أو قبلي عشائري وشعبوي وطني، أو بين نظم تقليدية وأخرى داثية كما يحلو للمصنفين تصنيفهم، لكن لا يوجد نظام حكم لا يمتهن القمع تجاه كل معارض أو مختلف، والتهديد بالقمع لم لا يهادن ولا يداهن.

وفي المقابل، ومنذ وكسة 1967 التي أعلنت وفاة العنترية الجوفاء في العلاقات الدولية العربية، أدارت هذه الأنظمة ظهورها للعالم الخارجي، ووظفت جيوشها وشرطتها وقوى استخباراتها باسم أمن الدولة لإعلان الحرب على الشعوب، حتى وصل الأمر أن أعداء الأمة هم من يتكلمون عن حقوق إنسانها ويزعمون أنهم يضغطون من أجل الحرية والديمقراطية، ويرسلون من يعلموننا التربية المدنية والمشاركة السياسية والتسامح المجتمعي وريادة الأعمال في مجالات البيزنس وإقامة مجتمع المعرفة وما إليه. 

ومن ثم ضاعت الوظائف الخارجية للدولة؛ من الوظيفة الدفاعية المتعلقة بتأمين الوطن وجوده وحدوده وكرامته ومكانته، إلى الوظيفة الرعائية التي تتعلق بتأمين المواطن من استغلال السياسات العالمية والإقليمية وصون كرامته ومصالحه خارج وطنه، إلى الوظيفة الانتمائية والولائية التي تتعلق بحفظ روابط الوطن ومحضنه القومي والحضاري؛ أي العربي والإسلامي، ونصرة قضايا واعتبار الأمن الوطني جزءا لا يتجزأ من أمن القوم والأمة.. تركت الأنظمة هذه المهمة الكبرى وتوجهت بغلوها وغلوائها إلى الشعوب تأكل فيها وتتصارع معها وتهدر طاقاتها وتجهض كل نهضة تسعى إليها.

واليوم حين يستباح الأقصى وتنتهك الحرمات وتؤذى الحرائر المرابطات وتقتل أمام أعين العالم العربية المسلمة هديل الشهلمون ويحرق من قبلها الرضيع الدوابشة وأمه وأبوه ويقتل الصهاينة كل يوم منا بدم بارد وبلا أدنى خوف أو ارتياب.. لماذا وماذا تفعل هذه الأنظمة؟

تحاصر غزة وتكتم أنفاسها وتهدم أنفاقها وتغرق ما تبقى منها، يتم إعلان المقاومة وقواها حركات إرهابية، يمتنع العرب عن استقبال أبطال المقاومة الفلسطينية، يطالب المنقلب بتوسيع دائرة العرب الداخلين في السلام مع الصهاينة، يقتل المالكي ومن بعده العراقيين وتحشد الحشود لحرب أهلية عربية، وتتم رعاية اكبر عملية إبادة نظام حكم لشعبه في سوريا.. دول الممانعة والمقاطعة تحولت إلى دول التقتيل والتقطيع في شعوبها، يصنع الانقلاب في اليمن وليبيا ولما يفشل ويخيب الانقلابيون يحيلونها حربا لا هوادة فيها، طالما الشعوب هب التي تقتل فما المشكلة؟ تحاك المؤامرات الدحلانية والحفترية والسيساوية والخلفانية على العرب وإرادة شعوبهم.. لكن حين يأتي الكلام على الصهيونية وكيانها فلا تجد إلا التخشع والتورع وخفض الصوت والجناح، ثم تنطلق الألسنة بالتسبيح بحمدهم. "أمن إسرائيل.. أمن الجار.. مراعاة المعاهدات.. التنسيق الأمني والتعاون العسكري والاستخباري.. التعاون والاحترام المتبادل.. ". قد كان لنا يوما رئيس بدرجة "كنز استراتيجي لإسرائيل"، فأمسينا ولنا مغتصب بدرجة "بطل قومي لليهود"!!

لكن اللحظة الأخيرة تكشف عن بلاء عظيم: ليست غزة وحدها المحاصرة، إن الشعوب العربية برمتها مقموعة محبوسة ممنوعة عن المؤازرة، لم تخرج في بلادنا للأقصى مظاهرة، لم تعقد بين الرافضين والراكضين نصف مناظرة، الصمت سيد العرب حكومات وشعوبا، والصوت المسموع خليط من صراخ الأقصى وهتافات المنافقين بين يدي النافقين: حيا الله الرئيس.. حيا الله أمير البلاد!!

خيالات المآتة ما عادت تقوم بدورها الوهمي، نفخ الشيطان فيها روحا وحشية، وانقضت على المزرعة تهلك الحرث والنسل، وامني اللصوص بآبار البترول والغاز التي تباع بالرخيص وتشترى بالنفيس، تمني الصهاينة بأن يأكلوا الأقصى ويهدموه، ويعدموا المرابط والمقاوم هو وأمه وأبوه، فإنهم حراس حدود إسرائيل، ولن يسمحوا للشعوب ولو بصوت العويل... خيالات المآتة قلبت الأوضاع وعاثت في الواقع المنقلب فسادا، وتأبى اليوم إلا أن تستكمل قصتها المختلقة والموهومة التي عنوانها "مات العرب.. مات العرب.. وتصهين من على وجهه انقلب.. وويل لكم من شر قد اقترب"!

لكنها سكرة لن تطول، ونشوة عن قريب سوف تزول.. إن بين أيدينا تحديا لو كان له رجال، وبين أيدينا شعوبا لو كان لها قادة.. آن لنا أن ننهي عصر خيالات المآتة..