لا يُستحضَر تاريخ التورّط السوفييتي في أفغانستان، ثمّ الهزيمة والانسحاب المخزي، وابتداء تفكك الاتحاد السوفييتي ذاته؛ إلا ويُستذكَر زبغنيو بريجنسكي: الأب المؤسس لمنظمة "القاعدة"، التي ستفرخ "جبهة النصرة" و"داعش" و"بوكو حرام" و"حركة الشباب المجاهدين" وسواها في عشرات البلدان؛ والمهندس الأبرز وراء إطلاق تلك "الصناعة الجهادية" التي أعطت "الطالبان" و"الأفغان العرب" وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري والزرقاوي والبغدادي.
هو، كذلك، "البروفيسور" الذي فتح علبة باندورا الأسطورية الشهيرة، أو أطلق المارد من القمقم كما نقول، متوهما أنّ الأذى سوف يصيب السوفييت وحدهم، ولن ينقلب السحر على الساحر نفسه، بعد أن تُطوى نهائيا صفحة الاتحاد السوفييتي، و"المعسكر الاشتراكي" بأسره.
ماذا يقول اليوم، تعقيبا على ارتسام ملامح تورّط روسي جديد، في
سوريا هذه المرّة؟
وما رأيه في بطل هذه الجولة، الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين، الذي لم يكن بعيدا عن مذاقات مرارة الهزيمة الأفغانية، لأنه كان يخدم في المخابرات السوفييتية؟ وهل ثمة دلالة في أن إسراع بوتين إلى نجدة بشار الأسد، هو أيضا لعبة روليت روسية، تقوم على عضّ الأصابع أيضا، مع الغرب عموما، والولايات المتحدة خصوصا؟ وما الذي يمكن أن يكون مميزا في رأي بريجنسكي، اليوم، ما خلا أنه كان ذلك المهندس في أفغانستان، من موقعه كمستشار للأمن القومي في رئاسة جيمي كارتر، 1977 ـ 1981؟ ثمّ ما الجديد الذي قد يقترحه رجل تساءل، قبل أشهر قليلة: ما الضير، لمصالح أمريكا، في استبداد بشار الأسد أو انقلاب عبد الفتاح السيسي؟
بادئ ذي بدء، في شهر تموز (يوليو) الماضي، بصدد تحليل معادلات روسيا في أوكرانيا؛ ذهب بريجنسكي إلى درجة عقد مقارنة بين بوتين وأدولف هتلر: "أعتقد أنه توجد نقاط تشابه، ونقاط اختلاف. لم يكن هتلر مهتما خصوصا، شخصيا، بجني الكثير من المال. بوتين لديه اهتمام جانبي بتكديس الأموال الطائلة، وهذا يُدخل منظورا مختلفا بعض الشيء على الحياة، بحيث تتوازن الأهواء أو تنضبط. ولكنّ الأخطر هو أن بوتين مقامر". فعلى مَن، وعلى ماذا، يراهن هذا المقامر المدمن في سوريا؟ على الأسد، الخائر الخاسر؟ أم على ما تبقى من جيش الأخير، والروس به خبراء؟ أم على شراكة، جيو ـ عسكرية واقتصادية ـ استثمارية مع إيران؟ أم، في أوّل المطاف ونهايته، على ملاعبة واشنطن والحلف الأطلسي، بعيدا عن الباحة الأوكرانية، وقريبا من منطقة تقاطع المصالح الكبرى جمعاء؟
ليست هذه أسئلة بريجنسكي، بالطبع، بل هي أسئلتنا؛ أو، بالأحرى، تلك الأسئلة التي يصعب ألا ترد على الخاطر عند وضع افتراضات مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق على محك الوقائع، الساخنة المتفجرة منها بصفة خاصة.
طريف، بذلك، أن نقرأ له، في "فايننشيال تايمز"، تعليقا حول التصعيد العسكري الروسي في سوريا؛ يقترح فيه حوارا بناء بين أمريكا وذلك المقامر إياه، بوتين: "على روسيا أن تعمل مع، وليس ضد، أمريكا في روسيا"، كما يقول عنوان التعليق، و"يجب أن نقنع موسكو بالعمل معنا في حلّ هذه المشكلة"، و"الأفضل هو إقناع روسيا بالعمل مع الولايات المتحدة في البحث عن ترتيب أعرض لمشكلة إقليمية تتجاوز مصالح دولة واحدة"، يتابع بريجنسكي.
طريف أيضا أنه، في التعليق ذاته، يحثّ الإدارة الأمريكية على استخدام "الحزم الاستراتيجي" في مواجهة روسيا، ولا يفوته التشديد على البُعد العسكري في تطبيق ذلك "الحزم". ذلك لأنّ الضربات العسكرية الروسية في سوريا هي، في أفضل الأحوال، تعبير عن "انعدام الكفاءة العسكرية الروسية"، وفي أسوأها "رغبة خطيرة في تظهير العجز السياسي الأمريكي"؛ مما يضع على المحك مصداقية الولايات المتحدة، خاصة عندما تقصف موسكو مسلحي المعارضة السورية الذين درّبتهم واشنطن. ورغم أنه لا يشرح الوسيلة الممكنة، أو حتى المناسبة؛ فإنّ بريجنسكي يدعو البيت الأبيض إلى أن يطالب روسيا، رسميا وعلانية، بأن توقف تحركاتها في سوريا، "بلا شروط"؛ خاصة وأنّ الطائرات الروسية في سوريا "غير حصينة، ومعزولة جغرافيا عن وطنها"، ويمكن "تجريدها" بالقوّة إذا لم يرضخ الروس للمطالب الأمريكية!
قارئ هذه الذروة في التعليق يخال أنّ بريجنسكي يدعو إلى مواجهة شاملة بين الجبّارين، لعلها تذكّر بأمجاد الحرب الباردة والإنذارات الشهيرة بين جون كنيدي ونيكيتا خروتشوف؛ لولا أنّ روح التعليق الإجمالية تدعو إلى التهدئة، والتسوية، والتفاهم، و… اجتذاب الصين، بدورها، إلى الحرب ضد "داعش"، وبما يوطد مصالحها في المنطقة أيضا! هنا يدرك المرء أنه إنما يقرأ بريجنسكي القياسي: "بروفيسور" العلاقات الدولية والأخطار الجيو ـ سياسية العظمى، الذي يفضّل بقاء دكتاتور مثل الأسد، لأنه "الشيطان الذي نعرف"، وبديله شيطان مجهولا لا حاجة بنا إلى المجازفة بالتعرّف إليه؛ وصاحب كتاب "الاختيار: هيمنة عالمية أم قيادة عالمية"، الذي يناقش قيادة أمريكا للعالم، ولكنه يراهن على جنرال مصري، قاد انقلابا عسكريا على أوّل رئيس مصري انتُخب شرعيا للمرّة الأولى منذ ثمانية آلاف سنة من تاريخ مصر!
"القيادة الكارثية" هي السمة الكبرى للإدارة الأمريكية الراهنة، حسب بريجنسكي في كتابه "فرصة ثانية: ثلاثة رؤساء وأزمة القوّة العظمى الأمريكية"؛ وهي التي قوّضت الموقع الجيو ـ سياسي للولايات المتحدة على نحو خطير. ورغم أنّ فرصة ثانية (لإصلاح هذه الحال، كما نفهم) ما تزال قائمة، فإنّ بريجنسكي متشائم تماما ويرجّح أنّ العلاج قد يستغرق سنوات طويلة ويقتضي جهدا مضنيا. ولعلّ عناوين الفصول، المخصصة للرؤساء الثلاثة، تختصر جوهر الملامة التي يلقيها بريجنسكي على عاتق كلّ منهم: "جورج هـ. بوش ـ الخطيئة الأصلية (وشِراك المخيّلة التقليدية)"؛ "بيل كلينتون ـ عجز النوايا الطيبة (وثمن التورّط الذاتي)؛ و"جورج و. بوش ـ القيادة الكارثية (وسياسة الفزع). ونفهم أنّ الخطيئة الأصلية هي فشل إدارة بوش الأب في إضفاء أي معنى ملموس على شعار "النظام الدولي الجديد"؛ وعجز كلينتون عن ترجمة الشعار، واغتنام ما خلقت سياسات الشعار من متغيّرات على الأرض؛ وقصور بوش الابن عن فهم البرهة التاريخية بين المخيّلة التقليدية والنوايا الطيبة…
وأمّا المشهد الكارثي ـ الذي رسمه بريجنسكي وأودعه أمانة في عنق رؤساء أمريكا المقبلين، وأوّلهم أوباما ـ فإنّ تفاصيله ترتسم هكذا: أوروبا الآن تغترب عن أمريكا أكثر فأكثر، وروسيا والصين تقتفيان الدروب التي لا تفضي إجمالا إلى باحة المصالح الأمريكية، وآسيا تنأى أبعد فأبعد وتدير ظهرها، واليابان تشتغل بذاتها على أمنها الذاتي، وديمقراطية أمريكا اللاتينية تزداد شعبوية وعداء لأمريكا، والشرق الأوسط يتشظى ويدنو من حافة الانفجار، وعالم الإسلام تلهبه الحميّة الدينية المتصاعدة والنزعات القومية المعادية لأمريكا، وعلى امتداد العالم تبيّن استطلاعات الرأي أنّ سياسات الولايات المتحدة لا تثير إلا الذعر والرفض… كلّ هذا بدون أن تقتحم "داعش" المشهد، فتستنفر 60 دولة طائراتها لقصف العراق وسوريا، وتقتفي أثرها روسيا بوتين، في انتظار الصين، وربما كوريا الشمالية… لِمَ لا!
ومع ذلك، "نحن شرطيّ العالم"، يقول بريجنسكي، ولكن ينبغي أن نبدو في صورة الشرطي العادل؛ وإذا حقّ لنا أن نتمتّع بمستوى من الأمن أعلى ممّا تتمتّع به الأمم الأخرى لأننا نجازف أكثر من سوانا، فإننا في الآن ذاته ينبغي أن نظلّ أبرز المبشّرين بالحرّيات الإنسانية الجوهرية اللازمة من أجل الارتقاء بالعولمة إلى مصافّ أعلى. نعم، كأن نحتضن أيّ، وكلّ، شيطان نعرفه؛ صحبة المقامرين!
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)