كثيرة هي الصفعات التي تلقاها هذا النظام الانقلابي وقائده المغرور وعسكره المجرور من هذا الشعب الجبار الأصيل، حتى إننا ليجب أن نعيد النظر ونراجع أنفسنا في استعمالاتنا لكلمة شعب إذا تعلقت بأفعال الطبالين والزمارين والراقصين على نغمة الانقلاب. لكن صفعة اليومين الأخيرين (18-19 أكتوبر 2015) بخصوص انتخاب "برلمان القراطيس" جديرة بأن تحدث إفاقة فينا لإعادة الاعتبار للشعب لفظا ومعى وحقيقة على الأرض حيث إنها لن تؤثر في الضمير الذي مات والعمى الذي غلب لدى الانقلابيين: فما لجرح بميت إيلام.
نحتاج إلى تأمل "الفعل والسلوك الشعبي" منذ ما قبل ثورة يناير وحينها وأثناء الحالة الثورية وإلى أن وقع انقلاب 3 يوليو 2013 وحتى اليوم؛ لكي نستخلص السمات الأساسية لهذا الفعل والعوامل الحقيقية التي تقف وراء إقدامه أو إحجامه، إقباله او عزوفه، مشاركته الإيجابية أو السلبية أو خروجه من الميدان. الشعب هو الضلع الأهم في معركتنا السياسية والحضارية، قبل القوى السياسية ونظام الحكم؛ ومن ثم فإن إغفاله أو الغفلة عنه جريرة قد لا تغتفر. والنظر في الفعل الشعبي يجب أن يكون موضوعيا لا تميل به الأمنيات ولا التجنيات يمنة ولا يسرة.
لقد طور مبارك نظام حكم موروث عن السادات قوامه ما يعرف بالديمقراطية المقيدة، ضمن تصاعد في وتيرة التتبيع أي التبعية للغرب؛ اقتصاديا وسياسيا وعسكريا فضلا عن الجانب الثقافي لدى نخبة متصدرة وطبقة متنكرة لأصلها، ثم بفعل السياسات الأمنية على يد زكي بدر ومدرسته التي انتهت بحبيب العادلي تحول الجهاز الأمني إلى جهاز حكم وسياسة وإدارة ثم جهاز رعاية وحماية الفساد السياسي والاقتصادي الكبير، هذا فضلا عن فشل في مجال التنمية تأزم وتعسر حتى تحول إلى عملية ممنهجة من تفكيك أجهزة الدولة وتفكيك البنية الأساسية وتفكيك القدرات الصناعية والزراعية والخدمية في التعليم والصحة والمواصلات، وتدمير الكيانات السياسية والمجتمعية من الأحزاب والنقابات والجمعيات التعاونية والأهلية وتقييد المجتمع المدني إلا الواقع تحت الوصاية الأمريكية المباشرة (تذكر قصة المعهد الجمهوري والمعهد الديمقراطي..).. آلت كل هذه الأمور إلى تأسيس وترسيخ ما أسماه الحكيم البشري جمهورية شرم الشيخ.. وفي مقابل هذا أدار الشعب ظهره لهذا النظام وإن لم يمكنه الدخول معه في معركة مباشرة.
لقد قاوم الشعب هذا النظام بنفض اليد من يده السارقة، وبالضغوط المطلبية التي جعلته ينغلق أكثر على نفسه ويخشى وجود الأحزاب ورموز المعارضة ويرتجف من كلمات كالديمقراطية أو الإصلاح السياسي أو الدستوري يويقيم لها الدنيا ولا يقعدها، وكذلك أغلق النقابات ووضع أكثرها تحت الحراسة القضائية، وأطلق يد حزبه الفاسد بلا نتيجة، ولكن الشعب قابل تكبر مبارك وحزبه بتكبر وترفع عن أن يحضر لها انتخابات أو استفتاءات كان الشعب يعلم ويتكلم في كل مقام أنها قائمة على التزوير وعدم احترام إرادته.
وكذلك قاوم الشعب بالسخرية اللاذعة حتى صار مبارك وابنه مادة أساسية في النكتة السياسية بمصر. وتوالت الحركات الرافضة مثل كفاية وجبهة علماء الأزهر وحركة استقلال القضاء وحركة استقلال الجامعة 9 مارس، و6 أبريل والجمعية الوطنية للتغيير.. فضلا عن القوى المجتمعية السياسية ذات الجماهيرية العريضة؛ أقصد القوى الإسلامية التي قاومت الحظر وسحب الشرعية المستديم، وعلى رأسها الإخوان المسلمون.
مع ازدياد الضغوط والتظاهرات استجابت قطاعات شعبية –بواجهة شبابية- غير قليلة لتظاهرات 25 يناير فيوم الغضب فالثورة حتى إسقاط مبارك وحتى زج في السجن بكبار رموز نظامه، وإن لم تجتث جذورهم. ومع الحالة الثورية التحررية استجاب الشعب بأكثرية غير مسبوقة لاستحقاقاته المعبرة عن إرادته الحرة الكاملة (استفتاء 19 مارس 2011: نحو 20 مليونا،
الانتخابات البرلمانية نوفمبر-ديسمبر 2011: نحو 33 مليونا، الانتخابات الرئاسية مايو-يونيو 2012: فوق 24 مليونا، الاستفتاء على الدستور ديسمبر 2012: نحو 20 مليونا..)، مع الوقوف في الحر أو في المطر، وبطوابير طويلة جدًّا وبكثافة عالية جدا، من أول اليوم إلى آخره، ودون ترغيب بالرقص أو ترهيب بغرامة، اللهم إلا التحفيزات التنافسية بين التيارات والأحزاب... فدل على فطنة عميقة وفطرة نظيفة.
في 30 يونيو 2011 نزلت أعداد كبيرة من الشعب لا تزيد بحال مع التجاوز عن 4 ملايين –بحساب إيرث جوجل الذي افترض أكبر عدد ممكن، ولغرض غير منكور: (انتخابات)، لا (انقلابات)، فلما شاهدوا اللعبة وعلموا أنهم قد خُدعوا، ما عاد ينزل منهم إلا بضعة آلاف في تفويض أو ترقيص، وصفعوا المنقلب وقضاته وإعلامه ومعسكره الصغير المتجبر على أقفيتهم سواء في الاستفتاء على دستورهم، أو انتخاب المنقلب أمام الكومبارس، أو اليوم في انتخاب برلمان القراطيس.
عامان من إعلان الغضب الصامت، نعم هذا لا يعني بالضرورة أن العازفين عن هذه الفعاليات قد جنحوا لتيار الشرعية، لكنه بالتأكيد علامة على إفلاتهم من قبضة المنقلب، وانعتاقهم من أوهامه الفنكوشية وأكاذيبه التي لم تعد تنطلي عليهم.. إن التصويت العقابي الذي كانوا يزعمون أن الشعب يقوم به ضد الإخوان، ارتد في وجوههم سكوتا وإحجاما عقابيا.. وإذا كان إعلام المنقلب قد كذب في استفتاء الدستور واراد قلب الحقائق، ثم راح يولول ويصرخ في انتخاب المنقلب ويعد ويتودد ثم يهدد ويتوعد على النحو الذي رآه الجميع .. وفي الحالين يخرج المزورون ليحكوا لنا عن أعداد من الأشباح بالملايين حضرت وصوتت نيابة عن الشعب
المصري.. فهذه المرة ترى الصفعة قوية وقد ألجمت ألسنتهم وأخرستهم تماما.
نعم في العزوف خطر أن يكون البديل هو العودة إلى الكنبة وحزبها السلبي، لكن هذا دورنا نحن أن نخرج الشعب من ظلمات الركود والركون إلى شمس الفاعلية والمقاومة.. وأن نحترم مواقفه وأن نقدر ظروفه وألا نجري وراء من يسمون من وراء المنقلب شعبا وما هم إلا حثالة لا يخلو منهم شعب مهما كانت أصالته.. ففي كل جسد سليم ونظيف ما يستحق الإخراج والتخلص منه.
صفعة برلمان القراطيس تستلزم توجيه التحية للشعب، وإعادة الاعتبار للشعب الحقيقي، والكف عن تسمية غيره شعبا، وأن نجدد النظر في علاقتنا وتفاعلاتنا مع الجماهير العريضة.. يجب أن نفتح نوافذ الفاعلية من المجتمع إلى السياسة فالثورة، وأن نثق في أن الشعب لن يخذل شبابه ولا الصادقين من قواه وقياداته الحقيقية.