كتب محمد أبو رمان: طرح الكاتب مصطفى أكيول في مقاله "ترياق في مواجهة داعش من العصور الوسطى" (والذي نشر في "نيويورك تايمز"، وترجمه لـ"الغد" الزميل علاء أبو زينة يوم الأربعاء الماضي)، ما سماه وصفة من العصور الوسطى لمواجهة "داعش". وتتمثل في "الفكر الإرجائي"، في مواجهة المدرسة
السلفية التي تمتد إلى أهل الحديث، ثم ابن تيمية، وصولا في العصور الحديثة إلى محمد بن عبدالوهاب، وأخيرا السلفيات الإحيائية الراهنة.
"مذهب
الإرجاء" في العقائد الإسلامية هو وصف أطلقه السلفيون على العقائد الأشعرية والماتريدية، والمقصود به إرجاء أو تأخير العمل عن الإيمان، وإخراجه من دائرة تعريف الإيمان، عموما؛ فأهل هذه العقائد لا يكفرون على القيام أو عدم القيام بأعمال، مثل الصلاة.
بالتأكيد، من حيث الانعكاسات الاجتماعية والثقافية، فإن الأشعرية والماتريدية أكثر مرونة من الحركات السلفية الراهنة؛ لأنّها كذلك تتوسع في التأويل والمجاز، وتعطي المعاني حيوية ومدى أكثر عمقا من الوقوف عند ظاهر النصوص، كما يفعل السلفيون، الذين يتشددون في قيمة "النص" أمام "العقل".
لكن في الوقت نفسه، لا توجد مدرسة من المدارس القديمة يمكن إحياؤها أو دعمها من دون مشكلات ومعضلات. حتى الصوفية التي طُرحت في مراكز تفكير غربية بوصفها الدواء المفيد ضد السلفيين، وتلقت الأنظمة العربية هذه الوصفة من "وحي" الدراسات الغربية وبدأت تطبيقها، فإنّها هي الأخرى تخلق مشكلات وأزمات في جوانب مختلفة، قد تتجاوز في خطرها السلفية في مجالات أخرى، ليست بالضرورة مرتبطة بالجانب الأمني المباشر، وإنما مرتبطة بما هو أخطر، أي أمن العقول وتحررها من كم كبير من الخرافات والأوهام الميتافيزيقية، وتكبيل العقل الإسلامي بها، والجمود والتعصب لأفكار معينة.
في المقابل، لدينا نسخة مختلفة تماما من السلفية الإصلاحية الوطنية التي هيمنت للحظة تاريخية معينة، وتزاوجت مع مدرسة محمد عبده، ورائدها هو محمد رشيد رضا، ومن أنصارها المفكر الجزائري مالك بن نبي وفقهاء كبار مثل ابن باديس، وأنجبت السلفية الشامية العقلانية في سورية، قبل أن تذوي شعلة هذه الأفكار نتيجة الظروف السياسية في العالم العربي.
زبدة ما أريد الوصول إليه، هنا، أن الوصفات القديمة، كما هي، جميعها لا تصلح أن نحاول اليوم استنساخها أو دعمها والترويج لها بوصفها "الترياق" أو العلاج من "وباء" الثقافة الداعشية. ما نريده هو تجديد الفهم للدين، وتوسيع باب الاجتهاد، والولوج من مفهوم آخر هو "الإصلاح الديني"، الذي ينقل معادلة الدين والسياسة والمجتمع إلى مرحلة جديدة، لا يشعر فيها المواطن بتناقض بين مواطنته وحقوقه المدنية والاجتماعية والعصر الذي يوجد فيه والتطور والتقدم من جهة، وحاجته إلى الإيمان والروحانية والالتزام بدينه وقيمه وأخلاقه من جهة أخرى.
الجملة السابقة ستجد من يعارضها من كلا الطرفين؛ العلمانيون المتطرفون الذين لا يريدون أن يسمعوا بالدين ولا بدوره نهائيا، ويرغبون في فرض علمانية حادة متشدد، قسرية، على المجتمعات العربية.
وهي وصفة سبق أن فشلت وأتت بنتائج عكسية تماما. كما سيعارض هذه الوصفة أبناء المدرسة الإسلامية الحركية، وجمهور كبير ممن أساء إدراك وفهم معنى شمولية الإسلام، ولا يدرك الفرق بين المقاصد والنصوص والاجتهادات الفقهية التاريخية، ويتغلب لديهم الخطاب الوجداني أو التعبوي والحركي أو الأيديولوجي على حساب الجانب المعرفي الموضوعي في إدراك كنه الدين وروح الشريعة ومقاصد الرسالة.
في نهاية اليوم، ما هي مقاصد الإسلام رسالته، أو الدين بصورة عامة؟ هل هي الانتقام والقتل، أو خدمة الحكام المستبدين والفاسدين في المقابل، أم هي خدمة الأخلاق والقيم والعدالة والحرية وتطوير العقل وتحريره من الخرافات والأوهام، وإحداث المصالحة بينه وبين النواميس والقوانين الكونية؟
(عن صحيفة الغد الأردنية 25 كانون الأول/ ديسمبر 2015)