كتب إبراهيم كالين: "من حق الجميع ومن ضمنهم الفلاسفة أن يقدّموا آراءهم السياسية حول التطورات اليومية. ولكن ليس من حق أي أحد من خلال تغيير الحقائق أن يتّهم الدولة بادّعاءات متناقضة مع ذاتها في مستوى الدعاية الرخيصة".
حين يكون الفيلسوف مدّعيّا
يرفض عالم الفلسفة الأسترالي "بول فايرباند" جميع الطرق المستخدمة بشكل رئيس في علم الطبيعة، ناقدا إيّاها ويقول بأن المبدأ الوحيد الذي يتيح التقدم في هذا العلم هو مفهوم "كل شيء مباح".
لعله أراد أن يضيف قائلا: (اقبل كل ما ينفعك). أصبح الدستور أحد العناصر المحدّدة لما عرف فيما بعد بالحداثة. وبناء على هذا فإن الذي يعرّف الوقائع ليس العقل أو الحقيقة أو التراث أو التوازن وإنما هو ما تطرحونه على أنه حقيقتكم. ولو أن قاعدة ما بعد الحداثة المخالفة للواقع قد فقدت صلاحيتها، فإن سماع صوتها أحيانا لا يزال ممكنا. ويبدو أن بعض النقاشات حول
تركيا التي تبناها بعض الكتاب الليبراليين أو اليساريين الغربيين تعتنق ذلك المنهج الفكري الأرعن الذي يقول بأن "كل شيء مباح".
"حزب
العمال الكردستاني، يحاول تغطية أعماله الإرهابية تحت ذريعة مواجهة تنظيم الدولة، ولكن أصل المسألة هو أن تركيا لم تستهدف أي موقع كردي في سوريا. هي فقط تلاحق إرهابيي حزب العمال الكردستاني الذي يعرّض حياة الأتراك والأكراد للخطر".
مادة "سلافوي
جيجك" القصيرة حول تركيا التي نُشرت في صحيفة "نيويورك ستيتسمان" في 9 كانون الأول/ ديسمبر تعد مثالا يتناغم مع مبدأ "كل شيء مباح"، حيث يدّعي جيجك بأن "ما يسمى بالحرب على الإرهاب تحوّلت إلى صدامات داخل كل حضارة، فكل طرف يدّعي محاربة تنظيم الدولة بغية استهداف عدوّه الحقيقي"، وهذه الجملة هي الوحيدة ربما التي يمكن اعتبارها ذات مغزى ضمن مقالة الماركسي السلوفيني والناقد الثقافي والفيلسوف جيجك التي تمثل حدود الرعونة والتعصب.
اتُّهِمت تركيا في مقالة جيجك بدعم تنظيم الدولة في العراق والشام، وعلاج مقاتلي التنظيم الجرحى، وتسهيل مرور النفط الذي يسيطر عليه التنظيم إلى داخل الأراضي التركية، بل لمّح أيضا إلى أن تركيا أسقطت الطائرة الحربية الروسية لأن هذه الأخيرة كانت تقوم بقصف أهداف لتنظيم الدولة داخل الأراضي السورية، واستطرد في مقالته موبّخا الاتحاد الأوروبي لموافقته على دفع مبلغ ثلاثة مليار يورو لتركيا لمساعدة اللاجئين السوريين.
لم يعتمد جيجك في مقالته على منطق مضلّل فحسب، بل تمثل الأمر الأكثر إقلاقا بفشله في تصوير الأمور كما هي عليه على أرض الواقع، حيث استخدم ضمن المادة قصصا مختلقة نشرتها المواقع الإعلامية الإيرانية والروسية لمهاجمة تركيا، و"مصادره" التي اعتمد عليها، بما في ذلك شبكة أخبار (AWD)، كانت خاطئة للغاية ومنتقاة بشكل سيئ، لدرجة أن محرّري "نيو ستيتسمان" اضطرّوا لحذف جزء من المقالة نسب ضمنه جيجك بيانا كاذبا تماما لهاكان فيدان، رئيس المخابرات التركية.
ادّعاءات جيجك تدحضها الحقائق
الادّعاء الذي أطلقه جيجك حول قيام الطائرات الروسية بقصف أهداف تنظيم الدولة على طول الحدود التركية السورية، تم دحضه أكثر من مرة من قِبل عدة مصادر موثوق بها؛ ففي الواقع، منذ أن بدأت الحملة الجوية الروسية، استهدفت 90 بالمائة من غاراتها جماعات المعارضة السورية والمدنيين الذين لا يمتّون لتنظيم الدولة بصلة.
إرهابيو تنظيم الدولة لا يتواجدون في منطقة جبل التركمان في جسر الشغور بإدلب، كما أن عدد القتلى من المدنيين تحت القصف الروسي يتجاوز 700 مدنيا حتى الآن، وإذا كان جيجك مهتما، سأرسل له بغبطة خريطة لسورية تظهر أماكن القصف الروسي حتى يتمكّن من مواءمة الحقيقة في موضع واحد من مقالته على الأقل.
ادعاءات جيجك الكاذبة حول مساعدة تركيا السرية لتنظيم الدولة هي تكرار ممجوج للاتهامات المبتذلة التي تطلقها موسكو هذه الأيام، والمضحك هو أن جيجك يصر بمواقفه على معاداة الدعاية الروسية عادة، ولكنه ينحاز إليها عندما يتعلق الأمر بمهاجمة تركيا، وباعتباره أحد الفلاسفة، وكثيرا ما يتحدث عن الصدق ويشكو من انعدامه في النقاشات السياسية، كان يتعين على جيجك على أقل تقدير أن ينفق بعض الوقت للتأكّد من صحة هذه الادعاءات الكاذبة التي يستشهد بها بحريّة تامة.
الأمر عينه ينطبق على ادّعاءات جيجك حول قيام تركيا بشراء النفط من تنظيم الدولة، فهذا الادعاء ليس له أساس واقعي من الصحة، ولكن ما نعرفه حقيقة هو ما يأتي: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فرضا عقوبات على الأشخاص الرئيسين الذين يبتاعون النفط من تنظيم الدولة نيابة عن نظام الأسد، وتشمل هذه القائمة: جورج حسواني رجل الأعمال السوري، ومدلل خوري المصرفي السوري، وكيرسان إيليومجينوف رجل الأعمال الروسي الثري ورئيس الاتحاد الدولي للشطرنج.
دع كل هذه الحقائق جانبا؛ أن يكون فيلسوف من الوجهة الليبرالية اليسارية داعما لادعاءات إيرانية وروسية المصدر من دون التحقّق من أي معلومة من أجل مهاجمة تركيا التي فتحت أبوابها لمليونين ومئتي ألف لاجئ سوري هاربين من حرب بشار الأسد عديم الأخلاق والرحمة، لهو مثال مضحك مبك على التعصب والاضطراب.
إذا كان جيجك يهتم فعلا بالشعب السوري فعليه أن يشكر تركيا التي أنقذت الآلاف من السوريين رجالا ونساء وأطفالا، من رحمة الغارات الجوية والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية وقذائف الهاون.
المليارات للاجئين وليست لتركيا
تلك الثلاثة مليارات يورو التي يبدو أنها أغضبت جيجك، ليست مدفوعة إلى تركيا بل إنها ستصرف على اللاجئين السوريين. هدف هذه المساعدة بالإضافة إلى كونها تحمي تركيا والسوريين هو حماية شوارع وحدود أوروبا. وفي هذا السياق، يتعين على جيجك أن يتحقّق من السجل المشين لبلاده ولدول أوروبية أخرى في تعاملها مع أزمة اللاجئين الجارية على قدم وساق.
"تنظيم تجمّعات كبيرة من أعمال الإرهاب في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية من قبل إرهابيين نشأوا هناك، يجب أن يكون له هدف توعوي لفشل المخيلة الاجتماعية وتعدّد الثقافات في المجتمعات العربية الغربية"... إبراهيم كالن (عبارة جانبية).
في هذه النقطة، يجب عدم نسيان أن تركيا فتحت ساحاتها وقواعدها الجوية للحلفاء وأنها عضو في التحالف ضد تنظيم الدولة. تركيا حتى الآن "أصدرت قانون منع دخول 33 ألفا و746 شخصا من 123 دولة يشتبه بمشاركتهم في النشاطات الإرهابية في سوريا إلى أراضيها، وقامت بالقبض على ألفين و783 شخصا مشتبها بهم وألقت بهم خارج الحدود"، وألقت القبض على أكثر من ألف شخص متّهم بالتدخل بالنشاطات المتعلقة بتنظيم الدولة ووضعتهم أمام المحكمة.
ادّعاءات تفضح جهل جيجك
وادعاؤه بأن تركيا حاربت
الأكراد الذين يخوضون صراعا مع تنظيم الدولة في سوريا، مثال آخر على الدعاية القاتمة والجهل. تركيا تحارب على أرضها إرهابيي حزب العمال الكردستاني المتدربين في معسكرات المنظمة في العراق.
في الستة أشهر التي مضت، حزب العمال الكردستاني الذي يندرج ضمن قوائم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية للإرهاب، قام بقتل أكثر من مئة مدني وموظف أمن، ومن بين هؤلاء هناك أكراد كثر.
حزب العمال الكردستاني يحاول تغطية أعماله الإرهابية بحجة أنه يحارب تنظيم الدولة. وحقيقة المسألة هي أن تركيا لا تفجّر المواقع الكردية في سوريا. هي فقط تلاحق حزب العمال الكردستاني الذي يعرّض حياة الأكراد والأتراك للخطر.
قد يكون من المفيد في هذا الموضع أن نذكّر جيجك بأن تركيا هي التي فتحت أبوابها لسكان كوباني العام الماضي عندما تعرّضت المدينة لهجوم تنظيم الدولة، كما أن تركيا سهّلت مرور قوات البيشمركة العراقية والجيش السوري الحر لكوباني بغية طرد عناصر التنظيم من المدينة.
والسبب الذي يقف خلف عدم حصول مذبحة للمدنيين في كوباني، يعود لقيام تركيا بالسماح لأكثر من 190 ألف شخص من سكان المدينة بالدخول إلى تركيا في غضون أيام واستضافتهم ضمن مخيمات اللاجئين في الداخل. وحتى يومنا هذا، لا تزال تركيا ترسل المساعدات الإنسانية، والغذاء، والدواء، والحليب، وحفاظات الأطفال، والاحتياجات الحيوية الأخرى، إلى الأكراد والعرب والتركمان في سوريا.
من جهة أخرى، فإن منظمة العفو الدولية اتّهمت حزب الاتحاد الديمقراطي – فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا– بـ"تهمة المحاربة من خلال تهجير القرى"، ما أدى إلى إجبار آلاف العرب والتركمان إلى مغادرة منازلهم.
جيجك، الذي يبدو أنه ضاق ذرعا من المعركة الواهنة ضد الإرهاب، لم ينبس ببنت شفة عن إرهاب حزب العمال الكردستاني، وآمل ألّا يكون هذا الموقف مقتبسا من القيم اليسارية القديمة المبتذلة التي تقول بأن "العنف المرتكب من اليسار هو ثورة بينما العنف المرتكب من اليمين هو فاشية".
التطرّف الأوروبي
إذا كنا فعلا ضد الإرهاب، فيجب أن نكون ضد جميع الإرهابيين، سواء إرهاب تنظيم الدولة أم تنظيم القاعدة أم بوكو حرام أم حركة إيتا أم حزب العمال الكردستاني؛ فكون الأخير منظمة ماركسية لينينية إرهابية لا تعفيه من تحمل غرم جرائمه.
علينا أن نحارب تنظيم الدولة وأمثاله بكل ما نملك من إمكانيات. وكما قلت سابقا، فإن على المسلمين أن يلعبو دورا قياديا ومحوريا في هذه المعركة.
وفي الوقت ذاته، ينبغي علينا أيضا أن نتساءل ونطرح الأسئلة حول موجة التطرّف التي تعم أوروبا وهي من جهة تمخّضت عن تفريخ مسلحي داعش، ومن جهة أخرى أنتجت حركات متطرفة وعنصرية ومعادية للأجانب كبيغيدا والنازيين الجدد في ألمانيا، وأندريس بريفيك في النرويج، وغيرها في جميع أنحاء أوروبا.
لكل شخص، بما في ذلك الفلاسفة، الحق في إطلاق تصريحات سياسية حول القضايا الراهنة، ولكن، لا أحد يتمتع بحق ليّ عنق الحقيقة واتهام بلد بأكمله بناء على مزاعم تناقض نفسها بنفسها ومن أجل بث دعاية رخيصة ومستهلكة.
لا، ليس صحيحا أن "كل شيء مباح"، فعندما يتعلق الأمر بالحديث عن تركيا، فإن الحقائق والتفاصيل والأدلة والاتساق، كلها تغدو أمورا مهمة بالفعل.. وأسلاف جيجك، بما فيهم ميشال فوكو وجاك لاكان، لم يكونوا ليغفلوا أيا من هذه العناصر في سبيل إطلاق مادة مشبعة بالرعونة الفكرية، كما فعل جيجك.
(عن "الجزيرة ترك"، مترجم خصيصا لـ"عربي21"، 28 كانون الأول/ ديسمبر 2015)