لستُ من الذين "احتفلوا" بالفتنة وما زالت أمتنا بمذهبَيها السني والشيعي أعجز من استرداد المحتل وتحرير المقيّد وردّ العدوان... ولستُ فنانا عُيِّن سفيرا لليونيسيف حتى أتمنى عالما بدون حروب أو حروبا بدون ضحايا. وما يجري في سوريا هو أكبر من أن يُقارَب حلّه بأدنى من اتفاقية دولية على شرق أوسط جديد يعكس عالَما متغيرا.
لستُ ساذجا حتى أعتبر برامج التسلّح والدفاع والموازنات المالية والعلاقات الخارجية لدولنا مبنية على خلفيات "روحية"، كما لستُ متغافلا حتى أبرّئ أطراف الانشطار من استغلال الدين والدنيا والسماء والدماء والتحالف مع الأعداء، من أجل الحفاظ على حكم أو تثبيت نظام أو توسيع إطار.
لستُ أعورا حتى أرى نصفَ دكتاتورياتنا وأعمى عن نصفها الآخر، كما لستُ داعيةَ ديمقراطية بالأساس. ولستُ محابيا حتى أرى تغليب حكم لمذهب هنا وتسامح حكم مع مذهب هناك، "فالتطرف الديني ضروري للدولة ليس لحفظ الفضيلة، وإنما لتضليل الناس وإخضاعهم لسلطتها" يقول ميكافيلي في كتابه (الأمير).
لستُ حالما حتى أتوقع نهايات سعيدة لمواجهات طاحنة في الشوارع والأزقة تحت شرفات المدنيين والفلاحين وبيوت التنك وقرب الوسائد الباردة لأمهات أطفال القبور. ولستُ مستعجلا نهايات مهرجانات الدم المسفوك، فللقتل طقوسه ومواقيته ومسارحه ومدارسه وأبطاله، والقتل قبل ذلك وبعده صوت من نوع مختلف على موائد التفاوض، بغض النظر والسمع والفؤاد.
لستُ مدّعيا قدرة فَهم أدوار اللاعبين في تصفيات سوريا من مختلف الفئات والدرجات، ومواعيد النهائيات وأشكال التتويج القادم... لستُ أيا من هؤلاء، لكنني مجرد مسلم "سني" في الولادة والعبادة ولدت وعشت والآن أستعد للموت في مدينة مضايا بريف دمشق قرب جبال لبنان الشرقية، التي يحاصر خبزها وماءها ودواءها وهواءها الجيش السوري وحزب الله.
ورغم كل ذلك ما زلت أحتفظ بصورة ليست بقديمة للسيد حسن نصرالله الذي قاد المقاومة الإسلامية في لبنان وقلوبَنا في الشام إلى انتصارات مشهودة على الصهاينة، صورة السيد حسن التي كانت تُرفع في جامعة الأزهر وباحات المسجد الأقصى وعلى سطوح دمشق، صورة السيد حسن التي كان يضعها شباب الأمة فوق رؤوسهم في حُجَر نومهم، صورة السيد حسن الذي التزم أخلاق الإسلام في الحرب مع "إسرائيل".
وأنا اليوم أخاطب سيد المقاومة في صورته تلك: ألم تسمع يا أبا هادي قرقعة أمعاء أطفال مدينة مضايا السورية؟ ألم تصلك مشاهد الموت الأصفر عطشا وجوعا ومرضا ووَهنا؟ هَب أن نساء مضايا وشيوخها وأطفالها وأجنّتها ضدك وضد حاكمهم، هل تقبل بحرب الإبادة هذه؟ هل سلاح التعطيش الذي استعمل ضد سيدنا الحسين عليه رضوان الله، يستعمله اليوم "رجال الله" ضد عباد الله "المعتّرين"؟ هل أصبح قتلة الحسين عليه السلام قدوتكم والمثال؟ هل تقبل يا سيد حسن بأن يقول الناس إنك جوّعت المستضعفين حتى الموت؟
أنت تعلم والكل يعلم أن بنانَك الذي أشار يوم 14 تموز 2006 إلى أبطال المقاومة ليدمروا بارجة العدو "ساعر" وفعلوا، يستطيع أن يشير اليوم إلى مقاتلي الجيش السوري وحزب الله ليرفعوا الحصار عن مضايا وسيفعلون ويُعاد إحياء اتفاق الزبداني-الفوعة.
فليبقى مصطلح الحصار إسرائيليا في ذاكرتنا، ولتبقى قرقعة الأمعاء سلاحا لأسرانا وليست حربا على مستضعفينا.
فلتبقى حجة "تواجد المسلحين بين المدنيين" نقيصة لصيقة بالإسرائيليين الذين استخدموها ضد المقاومتين اللبنانية والفلسطينية وأبادوا العائلات في جنوب لبنان وغزة.
فلتشتعل الحرب كما هو مخطط لها وليسقط فيها الضحايا المدنيون ظلما بنيران خاطئة من هنا وهناك، لكن محاصرة المدن والقرى حتى الموت هي عين الإبادة الجماعية، التي لا يقبل بها شرع ولا دين ولا خُلُق، وحتما يرفضها صاحب الصورة الأولى.
تلك رسالة مفتوحة إلى السيد حسن نصر الله دونتُها نقلا عن أمعاء مضايا...