اتخذت حركة
حماس في نهاية عام 2011 واحدا من أهم قراراتها الاستراتيجية، والذي تمثل بخروج الحركة من دمشق، لتكون بذلك وجها لوجه مع واحدة من أهم المحطات التي مرت بها الحركة، فاتحة الطريق أمام جملة من التحديات والارتدادت الداخلية والخارجية، حيث أن القرار كان أعمق أثرا وأكثر قسوة من ما توقعه صانع القرار في حماس، حيث دخلت الحركة في المنفى السياسي، مع تعثر الثورات العربية وانخفاض سقف الحلفاء الجدد، وهو ما جعلها تعاني من حالة انكشاف سياسي، خاصة بعد انتهاء الحرب الثالثة التي كانت الأشد فتكا في تاريخ الحروب التي تعرض لها قطاع غزة. فعلى الرغم من الإنجاز العسكري، وما امتلكته المقاومة من إنجازات ميدانية، وصد للعدوان، إلا أن مصر - على وجه الخصوص - منعت الحركة من تحصيل أي إنجاز سياسي، وساهم في ذلك الحالة المتدهورة التي تعاني منها المنطقة.
علينا أن نعترف بأن التعويل الكبير الذي وضعته حماس على حركات الإسلام السياسي والثورات العربية تحول إلى خيبة أمل كبيرة، حيث تمكنت الثورات المضادة من القضاء على تطلعات الشعوب، وتحولت البيئة العربية إلى ساحة تنافس وصراع بين القوى الدولية والإقليمية، وضعف بريق الثورة أمام تغول الطائفية واحتدام المواجهات الإقليمية، التي برز فيها طرفان أساسيين هما
الإيراني والسعودي، في ظل تراجع ملحوظ للدور التركي.
ومن المؤسف أن الدور التركي تراجع بعد أن عقد الإسلاميون عليه كثير من الآمال، وربطوا في بعض المراحل خياراتهم السياسية به، وهو ما لم يقدر عليه الأتراك، بعد أن خسروا رهاناتهم هم أيضا، وأصيبوا بخيبة أمل، مع التأكيد على أن تركيا عمدت إلى تغليب الحلول الناعمة وانتهاج الوسائل الدبلوماسية لتجاوز الأزمات أكثر من غيرها. ولا شك أن التراجع الذي شهدته السياسة الخارجية التركية مؤخرا، وعدم قدرتها على تغيير مجريات الأحداث في الشأن السوري، يعود في جزء كبير منه إلى تردد واضح في السياسات، وارتباط عضوي بالموقف الأمريكي والتحالفات الغربية المتشعبة.
وأي خطوات ستتصف بالشجاعة في قابل الأيام، هي خطوات أمريكية بامتياز لن تُعبر ولن يسمح لها أن تعبر عن تطلعات الدول السنية ومخططاتها. فما ينبغي علينا استيعابه أن المشهد الثوري الذي تكاتفنا حوله، قد تغير وأن الدول التي خالطت قراراتها ومواقفها بالمبادئية لم تعد كما السابق، فاللعبة أصبحت أكبر منهم.
وعليه، فالمطلوب أن نسلم بحقيقة تغير البيئة من حولنا، وهو ما ينبني عليه ضرورة تغير السياسات والرؤى التي تحكم قراراتنا وخياراتنا الاستراتيجية، خاصة أن التعويل على
السعودية لم يعد مجديا في المدى المنظور، وذلك لعدة محددات أهمها الإعراض السعودي، وسقفه المحدود جدا في حماية خيارات المقاومة المسلحة، حيث أن حماس التي سعت جاهدة لتحسين مستوى العلاقة مع السعوديين عادت بخفي حنين. فالسعوديون الذين وعدوا الحركة باجتماعات ستعقب الزيارة المعروفة لقائد الحركة خالد مشعل، لم يكونوا عند ما تحدثوا به، ولم تستطع الحركة أن تطور العلاقة مع السعوديين، بل وقام بعض الإعلاميين المحسوبين على السعودية مؤخرا، مثل عبدالرحمن الراشد، بالتطاول على الحركة والتأكيد على عدم أهميتها بالنسبة للسعوديين. كما علينا أن لا نغفل المحدد القديم المتجدد، وهو التغول الصهيوني في المنطقة، وارتفاع مستوى التنسيق مع الدول العربية، التي ترى بأن عدو عدوها "إسرائيل" أقرب لها من حليف وصديق سابق لعدوها "حماس"، فتجنب الساسة
الفلسطينيون الحديث عن التقارب الإسرائيلي مع عدد من الدول العربية أهمها الإمارات والأردن ومصر، لا يعني عدم وجوده، حيث أن التقارب الرسمي العربي مع دولة الاحتلال يأتي في ظل تدني دور الحاضنة الشعبية في تلك الدول وتأثيرها المنخفض على مجريات الصراع في فلسطين. وهو ما يستدعي رؤية أكثر واقعية، وحسما أوسع للخيارات.
وفي ظل هذه التحولات والتغيرات التي تشهدها المنطقة، والإعراض السعودي الرسمي، يبدو أن حماس لن تدير ظهرها هذه المرة للجهود الإيرانية المبذولة لإعادة العلاقة مع الحركة، لا سيما أن هناك حديث عن قيام إيران مؤخرا بإرسال
دعم للجناح العسكري لحماس في قطاع غزة. فإعادة العلاقة مع إيران أصبحت ضرورة مع زيادة التحديات التي تواجهها الحركة، خاصة أن التقديرات لا تنفي إمكانية اندلاع حرب في أي لحظة في القطاع، وهو ما يتطلب توفير خطوط دعم وإسناد، والسعي لتوسيع دائرة المواجهة وإشغال العدو على جبهات متعددة.