كتب محمد أبو رمان: من كان يتصوّر أو يتخيّل لمجرد وهلة، قبل أعوام، أن نرى شبابا من قرية الشاكرية النائية في جنوب الأردن، يسيرون على السجادة الحمراء لمنافسة نجوم هوليوود (الكبار) على جوائز الأوسكار العالمية؟
أو من كان يخطر بباله، ولو من باب التندّر أو الخيال، أن يصل فيلم أردني، مثلما فعل فيلم "ذيب"، ليتم اختياره ضمن القائمة المرشّحة للأوسكار، وينافس أفلاما عالمية تمثّل آخر ما أنجبته صناعة السينما، مع أفلام مثل "العائد"، "ماد ماكس"، و"فيوري راود"، "بيغ شورت"، و"جسر الجواسيس"، و"بروكلين"، و"ساكن المريخ"، و"الغرفة"، و"دائرة الضوء"؟
من الضروري أن نتجاوز لحظة الدهشة والفرحة بهذا الفيلم وأبطاله وصنّاع الإنجاز، وفي مقدمتهم المنتج وكاتب النص باسل غندور، والمخرج ناجي أبو نوّار، لنفكّر في مرحلة "ما بعد ذيب"، بل و"ما قبله"!
هذا الفيلم الذي نقل الرواية الأردنية إلى العالم، يفوق ما يمكن أن يعدّه البعض "قصة نجاح"، بل هو "قصة إبداع" من جهة، وقصة إدانة لفشل السياسات الرسمية بمؤسساتها المختلفة، كما المؤسسات المدنية، في خلق البيئة الحاضنة للإبداع والتميّز والإنجاز.
وليس الفشل فقط في إيجاد هذه البيئة المناسبة في الثقافة والفن والتعليم والاستثمار والصناعة، بل حتى في إدراك قيمة ذلك والاهتمام به. وربما تجدون هذا التجاهل على صعيد تعامل الحكومة، حتى اليوم، مع صنّاع "ذيب"، الذين كانوا يستحقون وداعا رسميا وشعبيا يليق بهم مع توجّههم إلى لوس أنجلوس، أو حتى عند عودتهم مرفوعي الرأس بهذا الإنجاز المدهش في ظل إمكانات مالية محدودة، وجهود شباب آثروا المغامرة وخلق الإبداع، في حين إن الحكومة والمؤسسات المعنية في سبات عميق!
"ذيب"، يا سادة، يطرح سؤالا كبيرا وجوهريا، هو سؤال الإبداع والتميّز والإنجاز. فهذا الفيلم لم ينل أي اهتمام رسمي، إلا بعدما تمّ تصوير المشاهد الأولى، فقدّم دعما له صندوق الملك عبدالله للتنمية، وتحوّل إلى فيلم عالمي بأقل الإمكانات. ما يعني أنّ هناك تربة حقيقية وخصبة للمبدعين في الأردن، لكنّها تحتاج إلى "البيئة الحاضنة" لذلك، تشريعيا وإداريا وثقافيا ومجتمعيا.
استطاعت الحكومات والسياسات الرسمية عبر جهود هائلة متراكمة خلال الأعوام السابقة، خلق بيئة منتجة للتطرف. وأنجزت تحويل الأردن من بيئة عابرة للمخدرات فقط، إلى "توفير الملاذ الاجتماعي" لها. لكنّها فشلت تماما في إيجاد البيئة الحاضنة للإبداع، ليس الفني فحسب، بل حتى الثقافي والأكاديمي والرياضي والإعلامي والعلمي... إلخ.
كمّ هي الطاقات الأردنية المهاجرة! وكم هم الأردنيون الذين لمعوا وأنجزوا وحلّقوا في الخارج، من إعلاميين وأكاديميين وعلماء ومهنيين!
ليست لدينا مشكلة في "بذرة الإبداع"، فهي متوافرة تماما. لكنّ المشكلة في "البيئة" القاتلة لهذه البذرة! وليس صحيحا أنّ المشكلة هي نقص الموارد المالية، فـ"ذيب" أُنجز بميزانية لا تعادل عُشر أحد الأفلام المنافسة له، وبخبرة محلية وإبداع مجموعة من الشباب!
التربية والتعليم في حالة تراجع، والجامعات في تقهقر، والدراما الأردنية دُمّرت، والدوري الأردني لكرة القدم أقلّ بكثير مما كان عليه قبل أعوام، والمنتخب الوطني للسلّة تراجع كثيرا مقارنة بما سبق، وفي المسرح يضطر موسى حجازين لأن يدفع من جيبه؛ لعدم وجود رعاية حقيقية للمسرح، بينما يتوفى نجوم الدراما الأردنية وهم في أوضاع مالية محزنة، ولأحدهم -مثل محمد القبّاني- أكثر من مئة عمل!
بدلا من أن نتقدّم نتراجع كثيرا؟.. لكن من قال إنّنا نعاني من مشكلة في الإدارة والسياسات ومستوى نضج المسؤولين؟ من قال إنّ الدولة تقتل المبدعين والإبداع؟!