فجأة صار الموضوع هو الدكتور "
سعد الدين إبراهيم"، أستاذ علم الاجتماع، ورئيس مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، والمقرب من البيت الأبيض والدوائر الأمريكية!
الرجل سافر إلى hسطنبول وهناك التقى بعدد من المعارضين الذين هربوا من حكم الانقلاب العسكري، ولم يكد يذاع الخبر خارج هذه اللقاءات التي عقدها، حتى بدأ الحديث عن مصالحة وشيكة مع نظام عبد الفتاح السيسي، لاسيما وأنه وبحسب المعلن قد التقى الأمين العام لجماعة الإخوان المسلمين والرجل القوي فيها الدكتور "محمود حسين". ولأن الجائع يحلم بسوق الخبز، فقد بنى البعض آمالا عظيمة على هذه الخطوة، واعتبروا المصالحة في هذا الوقت بالذات فرصة ينبغي العض عليها بالنواجذ، وليس خافيا عليهم أن الجناح التنظيمي داخل الجماعة، قد انتصر مؤخرا ، في ظل تراجع للجناح الثوري، الذي بات يؤمن بأن "وحدة الإخوان" مقدمة على أي شيء، وربما انطلق إلى إيمانه هذا مدفوعا باليأس، "فالعين بصيرة واليد قصيرة"، والتنظيم هو من يملك "بيت مال" الجماعة، ثم جاءت ذكرى 25 يناير من هذا العام فلم تشهد زخما ثوريا كما في الأعوام السابقة، وهو أمر كاشف عن سيطرة الجناح الإصلاحي الذي يعتبر أن الجماعة إصلاحية، ويرى أن استمرارها بعد محنة 1954 وما بعدها هو انتصار في حد ذاته وليس هزيمة!
"الحالمون بسوق الخبز"، نفخوا في لقاءات "سعد الدين إبراهيم" بالتعامل معها على أنها كاشفة عن
مبادرة كلف بها الرجل من عبد الفتاح السيسي، وهناك من رأى أن الجماهير يمكن أن تعرقل المصالحة الكبرى، فبدا يؤهلها للقرار الصعب، واستدعى البعض تراث الذين كانوا يمثلون الرأي الآخر بعد الانقلاب، وما أسميته بالأعمال الكاملة، التي تبدأ من القول إن مرسي كان فاشلا، وكان عليه أن يصارح الشعب بأن مؤسسات الدولة لا تعمل معه ولا تنفذ تعليماته، وتستهدف إفشاله. وهو حديث يهدف حتما إلى التعامل مع مرسي على أنه لم يكن "أملة"، وأن التمسك بشرعيته هو تمسك بالرجل الذي فشل سابقا؛ لأنه لم يضع الجماهير "في الصورة"، وكأنه لو صارحها كانت ستخرج لحمايته من الانقلاب العسكري!
عندي كلام كثير في مسألة مصارحة الجماهير، أمسك عنه، لأني أجد مشكلة مع القراء الجدد، الذين يرهقهم الاستطراد!
ولا أقبل بحسن نية التوظيف الذي يحدث لشكاوى أهالي المعتقلين والتعنت الذي يجدونه للتدريب على التخلي عن الشرعية. فقبل "حديث المبادرة"، كنت استمعت لمداخلة في أحد البرامج بقنوات الشرعية، لزوجة لمعتقل وهي تحمل على الذين يعيشون في الخارج ويجعلون من قضية الشرعية هي الموضوع، في حين أن أهالي المعتقلين لا يعنيهم ذلك وهم يريدون الإفراج عن ذويهم، وكادت أن تقول "بلا مرسي بلا شرعية"، ولا أعرف لماذا ظننت من طريقتها في الافتعال أنها كانت مكلفة بمهمة إعلامية!
وكأن كل من هم بالخارج يتعاملون مع شرعية مرسي على أنها حجر الزاوية، وكأن التمسك بشرعية الرئيس المختطف هي ما تحول دون الإفراج عن المعتقلين، وليس لأن
مصر وقعت في قبضة "شمشون الجبار"!
أتفهم بطبيعة الحال أن يدفع القهر الممارس ضد إنسان لأن يقول أي شيء ولا جناح عليه، وإن قال كلمة الكفر، بالله وليس فقط بالشرعية، لكن مع ذلك لم أستطع التعامل مع الأمر بحسن نية وسلامة طوية!
ما علينا، فسعد الدين إبراهيم وقد التقى بقيادات من المعارضة فهذا ما يعني أنه محمل برسالة من السيسي، لإبرام مصالحة، لا مانع فيها من قبول الدنية، ويجري هذه الأيام استدعاء صلح الحديبية، وكأننا في ذكراه، تماما كما كان يجري استدعاء تجليات يوم فتح مكة، لتبرير المصالحة مع أركان النظام السابق بعد الثورة، فلا يحفظون من هذا اليوم إلا مقولة "فاذهبوا فانتم الطلقاء"، فاتهم أن العفو لم يشمل الجميع، وأن هناك من كان التعامل معهم بقوة "وإن تعلقوا بأستار الكعبة" فضلا عن أن مكة لم تكن قد فتحت، تماما كما أن الموافقة على صلح الحديبية كانت لأن الرسول لديه خطة للانتصار نفتقدها، إلا إذا كان هناك من يتعاملون على أن مجرد العودة إلى زمن مبارك وبعدد من المقاعد في البرلمان، أن هذا يمثل انتصارا عظيما!
قال "سعد الدين إبراهيم" إنه جاء إلى تركيا بدعوة من إحدى جامعاتها، وأنه ليس محملا برغبة في المصالحة من أحد، فاعتبر "الحالمون بسوق الخبز" أن هذا تقية من "العجوز الوعر"، وأن هناك مصالحة على الأبواب فلا بد من تأهيل الجماهير لاستقبالها، فماذا في الدكتور محمد مرسي يدعو للتمسك به وهو الذي فشل لأنه لم يحط الشعب علما بحجم التحديات، فربما لو أعلم الجماهير لكان هذا سببا في أن تخرج "البنت وأمها" لنصرته!
وإذا كان هناك كلام يتداول عن إمكانية حل خارجي بمقتضاه يجري تغييب مرسي مقابل تغييب السيسي، فإن التمهيد بقصة مرسي الفاشل مهمة، فما لا يعلمه كثيرون أن هناك خوفا يتملك قيادات في المشهد، من الجماهير، عند الإقدام على خطوة كهذه، لهذا فربما استمع المراقبون لموضوع الخلاف بين تيار الإصلاح والتيار الثوري في جماعة الإخوان، فظنوا لتطابق الرؤى وتأييد الحل الثوري من الطرفين، أن الخلاف على الكراسي، وماذا في المواقع الأمامية للجماعة في هذه الأجواء يدعو للتمسك بها، لكن ما لا يعلمه المراقبون أن هناك طرفا لا يقول ما يؤمن به خوفا من الرأي العام!
لا أعرف لماذا لم يمد "الحالمون بسوق الخبز" الحبل على استقامته، فيكون من بين اجتهادهم أن "سعد الدين إبراهيم" مكلف برسالة أمريكية ما داموا قد قرروا له أن يكون "بوسطجي" و" ساعي بريد"، وهو رجل صاحب نفوذ هناك، وهو من قدم الإخوان للأمريكيين وعمل على تحسين صورتهم والترويج بأنهم جماعة معتدلة، لكن لأنهم فتحوا خطا مع البيت الأبيض بحكم الوضع الجديد بعد الثورة وبعد الحكم، فقد تجاهلوه فأوغروا صدره، فانطلق ينتقم وكان هو ضمن قلة عملت على إقناع الدوائر الغربية بقبول الانقلاب العسكري، وبالترويج لمقولة إنه ليس انقلابا فالجيش تدخل بناء على إرادة الشعب!
هنا سيرد من "يحلمون بسوق الخبز"، بأنه تحدث عن القبول بشرعية السيسي كسقف للمصالحة، ويمكن الرد عليهم، وما الذي يمنع أن يكون الخوف هو دافعه لهذا القول؟!
والرجل لا يريد في هذا العمر أن يجرب الخلاف الحاد مع السلطة، لاسيما أنه يواجه سلطة تفتقد للرشد، وهو بعد تجربة سجنه في عهد مبارك، يعرف حدود قوته وحدود القوة التي تمتلكها السلطة، التي أحبطته، فلم يكن يعنيه في نهاية عهد مبارك إلا أن يسافر للخارج ويعود في أمان، لدرجة أنه وقع على استمارة تأييد لترشيح جمال مبارك؛ إذ كانت هناك حملة للتوريث، أطلقها أحد الأشخاص ممن كنا نشاهدهم في المظاهرات ضد التمديد لمبارك والتوريث لنجله، ونفخت فيه الأجهزة الأمنية من روحها حتى صار نجما، وفرض موضوع حملته نفسه على الساحة، وقبل سفره للخارج استيقظنا ذات صباح على صورة تجمع الدكتور "سعد الدين إبراهيم" معه وهو يوقع على الاستمارة!
وعندما تم إعلان الخبر القنبلة من رجل كان مبارك يعاديه وقد خرج توا من سجنه وبضغوط أمريكية رضخ لها مبارك مؤخرا، وكما أسرفت محكمة الجنايات لمرتين في حيثيات الإدانة، فقد أسرفت محكمة النقض في حيثيات التفخيم الوطني، حتى ظننت بعد قراءتها أن "الوطنية" تعني "سعد الدين إبراهيم"، بعد أن كان عنوان الخيانة بمقتضى حكم محكمة الجنايات، لكن الإفراج عنه لم يحدث إلا بعد ثلاث سنوات قضاها في السجن الذي خرج منه بحالة صحية ليست جيدة، ما يزال يعاني من آثارها إلى الآن!
وعندما تم الإعلان عن توقيعه رد ردا متهافتا بأنه وقع على حق جمال مبارك في الترشح وليس على تأييده له، وكأن نجل المخلوع كان ينتظر إقرارا منه بهذه الحق الدستوري؟! وكان واضحا أنه يتخبط، وكتبت مقالا حادا ضده كان عنوانه "سعد الدين إبراهيم الذي يرى حسنا ما ليس بالحسن"!
كان نظام مبارك يسقط وكان وهو القريب من الدوائر الأمريكية مثلنا لا يعلم أنه يتهاوى، فتقرب إليه بالنوافل، ووقع على استمارة تأييد لجمال مبارك، فقد أذل الحرص أعناق الرجال، مع أن الإفراج عنه تم رغما عن أنف مبارك.
إذا تعاملنا بجدية، مع أن "سعد الدين إبراهيم" مكلف بالمصالحة من قبل السيسي، فإن هذا يقودنا إلى سؤال حول ولماذا يتصالح الرجل أصلا؟!
فالسيسي يستمد شرعيته في الداخل والخارج من أنه ضد الإخوان، وعندما تحاصر أحد مؤيديه بفشله، سيرد عليك بقوله: يكفي أنه قضى على الإخوان، وهذا العداء مع الإسلاميين يستطيع أن يستخدمه في البطش المفرط بمعارضيه، فماذا لو تصالح معه القوم، ليسقط مبرر تأييد بعض القوى المدنية له فتنتقل للمعارضة ولن يتم تمكينه من البطش بها؟!
أيام المد الثوري في الشوارع الذي كانت عقدته بيد الإخوان، ربما كان الفشل الاقتصادي للسيسي يعود إليه، وبالتالي فإن المصالحة يمكن أن تحقق الاستقرار فتعود السياحة ويعود الاستثمار الخارجي، لكن عدم الاستقرار لم يعد راجعا لثورة الإسلاميين حيث لجأت مظاهراتهم لداخل الحواري والأزقة، والمصالحة معهم لن تعيد استقرارا، ويوجد مجتمع آخر مؤهل للانفجار ربما يحد منه الخوف من عودة الحكم الإخواني، فيبطش بكل من خانوه. فضلا عن أن العداء مع الإسلاميين يضمن للسيسي التأييد المطلق من الأحزاب السياسية والكنيسة، فهل يضحي بما في يده بحثا عما في جيبه؟.. وما هو الثمن؟!
أنا مع الدكتور "سعد الدين إبراهيم" في قوله إنه لا يحمل مبادرة، لأني أعرف طبيعة شخصيته، فهو منفتح على كل التيارات، والمعلومة ضالته، وتشغله التفاصيل، وهو بطبيعته ليس مع استمرار الخصومة بين السلطة الحاكمة في مصر والقوى الأخرى، فإذا فشلت هذه السلطة حد التمهيد لثورة كاسحة، ورأت دوائر الانقلاب إقليميا ودوليا أنه لابد من قطع الطريق عليها، ولو بإزاحة السيسي، وقد يكون يتوقع سقوطه في انتخابات رئاسية قادمة، وهو ليس أعز على الأمريكيين من "برويز مشرف"، كان هو الرجل المناسب للقيام بدور الوسيط، وقد فهم حدود الأزمة وسقف التنازلات، ومن معهم مفاتيح الأمر، ومؤكد أنه في اسطنبول وقف على أنه ليس كل من هم ضد الانقلاب متمسكون بالشرعية، وليس كل الإسلاميين أمة واحدة.
إن فهم شخصية "سعد الدين إبراهيم"، سيوفر جهدا كبيرا، فلن يجد "الحالمون بسوق الخبز" مبررا لأن يطلقوا لأحلامهم العنان، ويتطاولوا على الرئيس المنتخب في محبسه، فيتحرك المجلس الثوري لقطع الطريق عليهم بإعلان تمسكه بشرعية الرئيس مرسي، والدخول في "دوامة الخلاف" العبثي، ويجد البعض في ما جرى فرصة للنيل من كل من جلس مع الرجل واستقبله باعتباره خان القضية الوطنية.
"سعد الدين إبراهيم" لا يحمل أسفارا أو مبادرات!