كتاب عربي 21

إلى الأكاديمية الكويتية: بل الخيانة تنحية الشريعة

1300x600
حُكي أنه بينما كان الحُجّاج يطوفون بالكعبة، ويغرِفون من ماء زمزم، إذ جاء أعرابيّ فحسر عن ثيابه ثم بال في بئر زمزم على أعين الناس، فما كان من الحُجّاج إلا أن انهالوا عليه ضربا حتى كاد أن يموت، فجاء به الحرس إلى والي مكة، فقال له: قبّحك الله، لمَ فعلت هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس، ويقولون: فلان الذي بال في بئر زمزم.

* المُلاحظ أن الأعرابي لم يبُل في أي بئر عادي، وإلا ما تناقل الناس خبره، لكنه عمد إلى بئر له مكانته الدينية لدى المسلمين، حيث إنّ له قصة عظيمة من زمن نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام، إضافة إلى اهتمام السنة النبوية به.

وما أكثر الذين يطمحون إلى البروز وذيوع الصيت عن طريق النيل من ثوابت الدين، فترى كاتبا أو مثقفا أو سياسيا من مجاهيل العلمانيين، يُبرِز نفسه ويعلن عنها من خلال جرأته على الدين.

* آخر ما طالعته في هذا الشأن، تلك الأكاديمية أستاذة الفلسفة في جامعة الكويت، التي خرجت على إحدى الفضائيات تنالُ من الشريعة الإسلامية.

الأكاديمية الكويتية ترى أن المواطن الكويتي الذي يقول إن الشريعة الإسلامية أفضل من الدستور هو خطر على الدولة، بل وتعتبر ذلك خيانة للوطن.

وترى أن من يطلب التغيير في الدستور من أجل أمر موجود في القرآن مستعدّ لأن يخون بلده، وأن أي أحد يعتقد بأن القرآن أو الشريعة أو أي تفسير لهذه النصوص الدينية أعلى من دستور الكويت فهذا فيه خيانة للكويت!!

ولم يفُت الأكاديمية الكويتية أن تُحمّل الشريعة الإسلامية أخطاء من ساروا بها بغير هدى من الله، وأساؤوا إلى الدين والأمة بممارسات خاطئة أبعد ما تكون عن الشريعة الإسلامية.

* تلك الحالة ما هي إلا نموذج لتطرّف الخطاب العلماني الذي تنامى وازداد حدة في الفترة الأخيرة، بعد أن تمكّنت الثورات المضادة للربيع العربي في إضعاف ما يطلق عليه الإسلام السياسي، وأصبح الخطاب العلماني يعزف على وتر مزاعم فشل هيمنة الإسلام في تقديم نموذج لإدارة الحياة السياسية، خاصة في مصر.

* كما أن الخطاب العلماني المتطرف تنامى بعد بروز تنظيم داعش الذي يمثل التطرّف الديني، وصار الربط المُتعسّف بينه وبين تعاليم الإسلام مائدة للّئام، للمطالبة بحصر الدين في الشؤون الروحية والتعبّدية، وعزله عن مجالات الحياة.

* العلمانيون العرب من قبل كانوا أكثر تحفظا، وتناولوا مسألة الحاكمية بصورة فيها مواربة وتلاعُب، فكانوا يعملون في فلك نصوص الدساتير التي تُقرّ الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع، ويتلاعبون في تفسير تلك المواد فيما إذا كانت الشريعة مصدرا وحيدا أم أساسيا بما تعنيه تلك الكلمات من دلالات دستورية، وكانوا مدفوعين لهذا التستّر بسبب تنامِي قوى الإسلام السياسي التي كانت تخوض معارك طاحنة ضد العلمانية مؤيّدة بحاضنة شعبية حريصة على الهوية الإسلامية.

لكن الأوضاع اختلفت، وصار الهجوم على ثوابت الدين والتشريعات الربانية، يتم بصورة علنية دون مواربة.

* أستاذة الفلسفة وأمثالها من العلمانيين ممن فشلوا فشلا ذريعا طوال عقود في تقديم حلول للأمة سوى تشويه الفكرة الإسلامية الشمولية، تناسوا أن الشريعة الإسلامية كانت دستور أعظم دولة في التاريخ.

الأكاديمية الكويتية ترى أن الديموقراطية تُحتّم طرح الشريعة جانبا، على أساس أنها تقوم على مبدأ "السيادة للأمة".

وهذه نقطة أريد التوقف عندها قليلا، حيث إن الإسلام يتوافق مع الديموقراطية من وجه الاعتماد على الشورى والتحلّل من السلطة الاستبدادية، وهو ما قام عليه النظام الإسلامي الذي تُعدّ الشورى دعامة أساسية في بنائه السياسي، غير أنه يخالف الديموقراطية في كونها تجعل للأمة حق التشريع المطلق، دون التفريق بين ما ورد بشأنه من النصوص المعصومة، وبين الأمور الحياتية التي يسوّغ للبشر فيها التشريع وسن القوانين، مثل القوانين التي تنظم المرور، والهياكل الإدارية للشركات والهيئات ونحوه، التي ترك الإسلام للناس فيها مساحة واسعة لمراعاة تغيّر الأحوال والزمان والمكان.

* يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه أولويات الحركة الإسلامية: "إقرار مبدأ التشريع والحاكمية لله تعالى لا يسلب الأمة سلطانها في الاجتهاد لنفسها في التقنين لحياتها وشؤونها الدنيوية المتطورة، إنما المقصود أن يكون التشريع أو التقنين في إطار النصوص المعصومة، والمقاصد الكلية للشريعة وللرسالة الإسلامية..

فالنصوص الملزمة قليلة جدًّا، ومنطقة العفو أو الفراغ التشريعي جد واسعة، والنصوص ذاتها من السعة والمرونة، بحيث تتسع لأكثر من فَهم وأكثر من تفسير، ومن ثَمَّ تتعدد المشارب والمذاهب والآراء داخل إطار الإسلام الرحب".

نعم السيادة للأمة، لكن بم تتحقق هذه السيادة؟ وكيف يتم ضبطها؟

السيادة للأمة وفق ما تقرره الشريعة، التي جعلت للأمة حق تعيين الحاكم، وحق مراقبته، وحق عزله وفق الضوابط الشرعية، فالإمام ليس مُعيّنا من قبل الرب على طريقة الحكم الثيوقراطي، إنما يتم وفق آلية سليمة وعادلة تكفل حرية الرأي وتقدير المصلحة.

* الأكاديمية الكويتية شأنها شأن غيرها من التيار العلماني، يضربون بقوة لإقصاء الشق السياسي من النظام الإسلامي، حتى تصفو لهم الأجواء لاستيراد أي منتج قيمي وفرضه على واقع المجتمعات الإسلامية، وأعطوا لأنفسهم الحق في العبث بهوية الشعوب المسلمة، مع أن ذلك الفصل المتعسف فكرة فاشلة جلبت الويلات للعالم الإسلامي منذ سقوط الخلافة العثمانية.

* نقل د. محمد ضياء الدين الريس في كتابه النظريات السياسية الإسلامية عن د. فيتزجيرالد قوله: "ليس الإسلام دين فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضا، وعلى الرغم من أنه قد ظهر في العهد الأخير بعض أفراد من المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون، يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن صرْح التفكير الإسلامي كله قد بُني على أساس أن الجانبين متلازمان، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر".

* أستاذة الفلسفة الكويتية ترى أن المطالبة بعلوّ وهيمنة الشريعة على الدساتير خيانة للوطن، لكن أي خيانة أعظم من ضرب الأمة في هويتها؟

نعم، إن المطالبة بتنحية الشريعة عن شؤون الحكم وتصفيتها من الجانب السياسي، هي محاربة للشعوب في هويتها الراسخة عبر عشرات القرون، فتلك الهوية هي أكبر فكرة ترتكز عليها نهضة أي دولة بإقرار علماء الاجتماع.

وأي محاولة لطمس هوية تلك المجتمعات والعبث فيها، هو تفتيت لهذه الشعوب وضرب لُحمتها الداخلية.

* إن هذا الخطاب العلماني المتطرف كارثي بكل المقاييس من منظور الأمن والسلم العام، فهو أكثر ما يفتح الطريق أمام نشوء تطرف مضاد، قد يحمل الفكرة الإسلامية في أصله، لكنه يخطئ الطريق إلى ترجمتها.

وظاهرة التطرف والإرهاب الديني المُتمثل في استباحة الدماء المعصومة، والولوغ في التكفير بغير حق أو ضابط شرعي، ليست أقل تطرّفا من مسلك اختزال الشريعة ونسف ثوابتها والطعن فيها، فليس هناك مجال لتجريم أحدهما دون الآخر.

* إن فتح المجال في الفضائيات للنيل من التشريع الإسلامي لا يُعبّر عن حرية الفكر، إنما هو إيذاء لمشاعر ملايين المسلمين لحساب فئة أثبتت فشل تجربتها، ولم تُقدم للأمة سوى المهاترات والتنظير والجدال، بينما ابتعدت عن معالجة واقع المسلمين وحل أزماتهم.

وحريّ بالدعاة والمصلحين والمفكرين المسلمين في بلادي المُمتدّة، عدم الالتفات لفزّاعة الإرهاب والدولة الدينية التي يطنطن حولها العلمانيون، وأن يقوموا بتوعية الجماهير عبر الفضائيات والصحف والمنابر الإعلامية، بشمولية الإسلام، وعِظم بنائه السياسي، وبيان أن الإسلام دين ودولة، بعيدا عن التفسيرات المتطرفة التي تهمل المساحات الخضراء التي تركها الإسلام للناس، والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.