كتب

فهمي جدعان.. "تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات"

حاول المؤلف تقديم "صيغة تصالحية" بين القيم الدينية والقيم الإنسانية المعاصرة
في كتابه "تحرير الإسلام ورسائل زمن التحولات" الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر؛ يحاول المفكر الأردني فهمي جدعان تقديم صيغة تصالحية بين القيم الدينية والقيم الإنسانية المعاصرة، وذلك عبر مواجهة ما يسميها "الصور الطاردة التي غيبت هدف الدين في أن يكون هديا للإنسان، ومثوى للأمم المقهورة، وقاعدة للسلم العادل في العالم، وللتواصل الإنساني الرحيم".

وينبه الكاتب لإلى أنه لا يقصد بـ"تحرير الإسلام" تحرير الدين من مقدماته الكبرى، أو تقديم إسلام جديد، أو شجب التجربة التاريخية الإسلامية بإطلاق، وإنما يقصد الدفاع عن المقاصد العظمى للدين، وتقديم صورة نقية أصلية متحررة من الاختلاطات والتجاوزات والحيدات الزمنية التاريخية البشرية.

وفي سياق محاولته فك الاشتباك بين الإسلاميين والعلمانيين؛ يطرح جدعان سؤالا جوهريا: "هل دين الإسلام سياسي في ماهيته ومقاصده الدينية، أم أنه دين اجتماعي أخلاقي، أم أنه الوجهان كلاهما؟".

ويقر الكاتب أن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كان يمارس الفعل السياسي بكل المعاني، لكنه يرى أن القصد من هذا الفعل كان تأسيس المجال الحيوي البشري لأمة مدعوة إلى أن تكون خير أمة أخرجت للناس، أي "خلق الأرضية الجغرافية السياسية التي يستطيع هذا الدين تحقيق رسالته الأخلاقية عليها، وهذا يعني حتما الدخول في فعل سياسي صراعي"، لكن الكاتب لا يعتقد "أن الغائية الرسالية للنبوة؛ تكمن في تمثل دين الإسلام في دولة سياسية دنيائية"، والسبب بدهي برأيه، وهو "أن دين الإسلام ينبغي أن لا يكون موضوعا لأحابيل السياسة والميكافيلية والذرائعية اللاأخلاقية".

لكن ما هو مصير الشريعة وأحكامها في ظل الدولة العلمانية؟ يجيب جدعان بأن الدولة السياسية العقلية هي دولة العدل الذي هو الغاية القصوى للشريعة، "فالدولة السياسية التي تتوخى العدل هي التي تشخص صلب النص الديني الإسلامي، وتحقق في الوقت ذاته القيم الإنسانية"، ويترتب على ذلك وفق الكاتب؛ أن الدين ليس في حاجة إلى أحزاب دينية سياسية تتكلم باسمه، وتدعي أنها هي وهو شيء واحد، كما أن الدولة العادلة مدعوة إلى أن تلبي الحاجات الشخصية والاجتماعية لمواطنيها، ولذلك سيكون من باب العدل أن يكون الاجتهاد الفقهي أصلا صريحا من أصول القانون والتشريع.

تحت عنوان "الإسلام العربي" يثير الكتاب مشكلة "المرجعية العربية الحصرية للقرآن" التي أعطت العربي سلطة لغوية لتفسير المعاني القرآنية، والتي ترتب عليها ربط الإسلام بالعرب، وتحويله إلى أن يكون -كاليهودية- ديانة قومية، "ففي ظل اعتبار المدخل اللغوي لفهم الدين؛ الأداة المركزية للدخول إلى فقه الإسلام وإدراك مضامينه؛ تحولت علاقة غير العربي مع النص القرآني إلى حالة ميؤوس منها"، ويستدرك الكاتب بأنه لا يدعو إلى إخراج الدور العربي من رسالة الإسلام الحضارية، وإنما يقصد أن المقاربة السديدة لدين الإسلام في الزمن الراهن والأزمنة القابلة؛ لا يمكن أن تكون هي المقاربة اللغوية التي يشدد عليها العرب انطلاقا من أن إعجاز القرآن لغوي، وإنما ينبغي أن تكون مقاربة مفهومية تتعلق بمعاني القرآن وغايات دين الإسلام، ولا ينبغي أن تكون أمم الإسلام رهينةَ الاستبداد اللغوي العربي.

وفي الموقف من التراث؛ يرى فهمي جدعان أن هناك زاويتين متباعدتين في التعامل معه، تتمثل الأولى في السلفية المطلقة التي ترى أن الحضارة العربية الإسلامية هي خير حضارة أبدعها الإنسان، وتعزز هذه النظرة بالقول إن الحضارة الحديثة لم تجلب سوى الشقاء والبؤس. أما الزاوية الثانية فتتمثل في الليبرالية المفرطة، التي تقول إن طاقات الإنسان قد عطلت في تقليد التراث السالف، وإن الإنسان لم ينته أمره عند الحدود التي انتهى إليها في العصور التي مضت.. وتدعو هذه النظرة إلى تجاوز الماضي والتحرر من قيود القديم.

ويرى الكاتب أن هناك عدة وظائف للتراث؛ تتمثل في الوظيفة النفسية التي تشكل سندا معنويا لإرادة أمة مغلوبة كانت ذات دور مرموق في التاريخ، والوظيفة الثانية جمالية؛ تتمثل في تذوق معلقات الجاهليين وشعر البحتري والمتنبي وأدب الجاحظ وابن المقفع، والوظيفة الثالثة عملية؛ مثل الشروح الفقهية وعلوم العقيدة. وفي ضوء هذه الوظائف؛ يرى الكاتب أن الدور الذي يضطلع به التراث هو دور مركزي، يدخل في المركب الحي الذي يشكل الأفراد والأمم نفسيا واجتماعيا وقوميا، غير أنه "لا شيء مقدسا في التراث؛ لأنه ذو حدود إنسانية طبيعية".

ويوسع الكاتب دلالة معنى التراث فهو يرى أن صنع التراث لا يتوقف، ففي كل العصور نصنع عناصر تراثية جديدة، ونورثها لمن يأتي بعدنا، هذا يعني وفق الكاتب أن مهمتنا لا تنحصر فقط في تلقي التراث، وإنما أيضا وبقدر أكبر في إبداع التراث، فما هو التراث الذي ينبغي أن نبدعه؟

يجيب الكاتب أننا محاصَرون بآلات القهر السياسية والاجتماعية، وبقوى التسلط الاستعماري الخارجية، وكل تراث سينجم في ظروف الحصار القائمة؛ هو تراث مأزوم، يكشف عن فوضى الأوضاع؛ أكثر مما يكشف عن منجزات أمة تحيا حياة طبيعية، وتبدع منجزاتها بالقدر الأدنى من الحرية والفرادة، وإذا كانت مهمتنا النهائية هي إنجاز تراث إنساني يليق بنا؛ فإن مهمتنا الأولية السابقة على أي مهمة؛ هي فك الحصار المضروب على فعالياتنا الطبيعية.

هل يمكن قيام علمانية إسلامية؟

ينبه فهمي جدعان إلى أن هذا السؤال ليس في سياق نظام إسلام قائم يُطلب إليه أن يكون علمانيا، وإنما في سياقات علمانية قائمة ذات سلطان؛ يراد لها أن توافق دين الإسلام، وأن تجد فيه مسوغا لشرعيتها.

ويسوغ الكاتب مصطلح "العلمانية الإسلامية" بواقع تجربة حزب العدالة والتنمية التركي الذي تخلص من "علمانية أتاتورك الراديكالية" و"ثيوقراطية أربكان الدينية".. هذا المشروع "يسلم بمبدأ الفصل العلماني الكمالي بين الديني والسياسي، لكنه يوجه إلى العلمانية الحيادية، وإلى الأخذ بالديمقراطية الاجتماعية الأوروبية، والتشديد على قيم العدالة والحرية والرفاهية وحق الاختلاف والتعددية والتنمية والتكافل الاجتماعي والخير العام وجملة حقوق الإنسان.

وفي الإجابة عن سؤال إمكانية قيام علمانية إسلامية؛ يخلص جدعان إلى أنه إذا كانت علمانية الحياد لا تقصد إلا بناء مجتمع سياسي قائم على قيم إنسانية تتجسد في الحرية والمساواة والعدالة، والحكم التمثيلي، وطلب الخير العام، والاعتراف بحقوق الإنسان وإنفاذها؛ فإن من شأن قراءة إنسانية تأويلية للنصوص الدينية أن توجد منظومة فكرية وعملية، يتضافر فيها العقل المصلحي المقاصدي، والعقل العلماني الحيادي، وقد يعزز هذا المذهب -وفق جدعان- ما جنح إليه اجتهاد عبد الرزاق السنهوري في مسألة العلاقة بين الشريعة والقانون المدني؛ من الدعوة إلى أن تكون الشريعة مصدرا من مصادر القانون. 

ويُرجع الكاتب أهمية هذا التصور إلى أنه يحفظ الدين في عملية التطور التاريخية، لكنه يعود ويستدرك بأن المخزون النفسي والمفهومي لهذا المصطلح يبدو ثقيلا على أنفس الإسلاميين والعلمانيين كليهما، لذا كان الأجدى أن نتكلم عن "علمانية متوافقة مع الإسلام" أو "إسلام متصالح مع العلمانية".

الحرية

يرى فهمي جدعان أن الأوضاع العربية تفرض -فرضا حتميا- الإيمان بالحرية كطريق خلاص رئيس لا مناص عنه لإدراك النهضة، وأن قدرة العالم العربي على مواجهة مخاطر العولمة مرهونة بمدى انحسار الاستبداد، وبمدى تقدم قضية الحقوق والحريات الأساسية، وأن العولمة وضعت الشعوب العربية على مفترق كبير: إما طريق الحرية فالجهد الخلاق فالنهضة، وإما طريق التبعية فالعبودية فالقمع والقهر فالتخلف المتزايد.

لكن الكاتب ينبه في هذا السياق إلى أن الحرية لا تنحصر في الأشكال التي عرفتها المجتمعات الغربية، وأنه ينبغي إعادة بناء الليبرالية في البلدان العربية بالشكل الذي تراه أفضل، وذلك "يستلزم استيعاب مبدأ الحرية الفردية ضمن مفهوم جديد لاجتماعية الإنسان"، وينقل جدعان في هذا الاتجاه عن ناصيف نصار نقده لليبرالية المتعولمة التي تهمل حرية الإرادة لمصلحة حرية القدرة الرأسمالية المنفلتة، ويدعو إلى بناء فلسفة تقوم على "ليبرالية اجتماعية" دعائمها العقل الاجتماعي، والعدل الاجتماعي، وسلطة سياسية تقيم الأطر والتنظيمات التي تحمي الحرية وتصونها.. هذه الصيغة برأي الكاتب تبدد المخاوف العربية من الانخراط في حضارة الحرية؛ لأنه انطلاقا من الليبرالية التكافلية؛ يمكن إعادة بناء قضايا الوحدة، والتعددية، والاستقرار، والعمل، والثروة الاجتماعية، والنظام السياسي، والمعرفة، والإيمان، والتربية، وما تستلزمه من مؤسسات؛ بطريقة لا تقل مرونة ونجاعة عن الطريقة التي تتبعها الدول الأوروبية في الانتقال إلى أوروبا الجديدة.

ويخلص فهمي جدعان في نهاية كتابه إلى "أننا لا نستطيع أن ندير ظهورنا لعالم الحداثة، وأن نهون من هجوم الثقافة الكونية"، لكنه في الوقت نفسه؛ يبدي رفضه لأقوال غلاة العولمة عن المواطنة العالمية وأن الهويات الحضارية باتت من مخلفات الماضي، فهذه النظرة -وفق جدعان- تنم عن "استبداد نظرة أحادية للعالم، ونظرة داروينية جديدة يُحكِم فيها القوي المسلح بنظام اقتصادي شرس غير إنساني؛ هيمنته على العالم".

ويرى جدعان أن الهاجس الأعظم هو حضور ذواتنا في الوجود التاريخي المباشر، دون أن نقطع العلائق التي تصلنا بالعوالم الأخرى وثقافاتها، ويؤكد أن "تجربة العقود المنصرمة تقود إلى أن أيا من النظم الإسلامية أو العلمانية أو الليبرالية أو القومية لم تدرك غاياتها، وأن حجم المشكلات الواقعية لا يقدر على مواجهتها أي من هذه النظم بقواه الذاتية وحدها، وأن الحل يكمن في فعل تضافري يتقوم بالمفاهيم والمقاصد النهائية التي يمتاز بها كل نظام من هذه النظم، والتي تصلح للاستخدام في مطلب النهضة والتقدم".