انتهى، فلم يتبقَّ منه إلا مدرعة وقنبلة غاز وطلقة خرطوش، تمكنه من البقاء على قيد الحياة، لا لينعم بالسلطة، وإنما ليتعذب بها، ويكون في حكم من يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت!
انتهى عند أول هتاف برحيله وبسقوط حكم العسكر، هتف به صبي كان في أيام ثورة يناير طفلاً، لكنه خرج يدافع عن ثورة لم يحافظ عليها من قاموا بها كالرجال، فبكوا من الهزيمة كالنساء.
انتهى عندما عادت وحدة الثوار من جديد، وهتفوا في يوم 15 إبريل الجاري: "كتفك في كتفي دمك دمي"، ولم يبالوا بإعلان الخيول التي لا تصهل بأنهم لن يشاركوا في يوم أعلن الإخوان أنهم سيشاركون فيه، وبعد أن علموا أن الثورة قامت بمن حضر، جاءوا إليها على خجل، ليشهدوا منافع لهم.
انتهى عبد الفتاح السيسي في يوم "جمعة الأرض"، لأنها كانت جمعة وحدة الثوار، فقد سقط مخططه في هذا اليوم الذي قام على قاعدة "فرق تسد"، وهو الذي مشى بين الثوار بالنميمة، وعمل على تمزيق وحدتهم، ومن هذا الباب دخل، فكانت هزيمة الثورة، عندما كان الثوار كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً.
لقد بنى السيسي مشروعه في الإفساد والسيطرة على الوقيعة بين قوى الثورة، وعلى المبالغة في إثبات الولاء لكل فصيل على حدة، وفي لحظة كاشفة وقفت كل الفصائل على أنه هو الطرف الثالث الذي كانت تتحدث عنه في أيام الثورة ولا تمسك به، وهو الذي قتل الثوار، وحمى نظام مبارك من السقوط، وحماه وحمى أركان حكمه من المحاكمة، وحمى الأموال المنهوبة في الخارج من أن تسترد، وأنه هو زعيم الثورة المضادة، وأن انتماءه في الأصل والفصل هو لمبارك ونظامه، فمبارك هو من صنعه على عينه، وجاء به من سلاح المشاة مديراً للمخابرات الحربية، دون أن يمتلك أي مؤهلات لذلك سوى خضوعه المهين لكل من هو فوقه، بشكل يثير الاشمئزاز، ومن هذا الباب أدخل الغش والتدليس على الثوار وعلى الرئيس المنتخب!
كان السيسي على علم بأن مخططه قد كشف، وأن الثوار باتوا على علم بأنه جيء به على قدر، لاستكمال حكم مبارك في طي صفحة الثورة، التي أرقت عيون حكام الخليج، وفضت مضاجعهم، وأنه جاء ليستمر في سياسة التبعية، وفي بيع
مصر بالرخيص، فبعد أن تنازل عن حصة مصر التاريخية من نهر النيل، وبعد أن أعطى لسد النهضة شرعية بتوقيعه بدون قيد أو شرط، جاء لبيع جزيرتين الرابح الأكبر من بيعهما ليس من اشترى ولكن عدو الأمة التاريخي.
لقد علم السيسي أنه صار مكشوفا أمام الرأي العام، وأن الثوار انتبهوا لمخططه في السيطرة بالوقيعة، فاستشعر أنه انتهى فوجدناه في "جبل الجلال" في البحر الأحمر في ذات يوم الملحمة الثورية، بدون سابق إعلان!
قال إنه ذهب إلى هناك من أجل افتتاح مشروعات قومية، مع أنه سبق له أن صرح بأن هناك مشروعات يقوم بها في السر خوفاً من الأشرار، فما الذي جعله يعلن عنها، بل ويدعو الإعلام إلى تغطيتها، ثم أين هي هذه المشروعات، ولم نر إلا رمالاً على "مدد الشوف"، وجاء لقاؤه في الهواء الطلق، ومن أين جاء هؤلاء الحاضرون الذين التقى بهم؟ يبدو أنه تم شحنهم إلى هناك، للقيام بدور الكومبارس على المسرح الفكاهي!
لقد قال الدكتور حازم حسني تعليقا على تصريحاته هناك: "لم أجد إلا رجلاً منفصلا عن الواقع تماماً سابحاً في الأوهام"، وتكمن مشكلة الدكتور حسني، أنه تعامل بجدية مع كلام السيسي فوصل لهذه القناعة، فاته أن الزيارة كلها كانت هروباً، وحتى إذا اشتدت الثورة كانت المملكة العربية السعودية "أقرب إليه"، فلم يكن الهدف من الزيارة افتتاح مشروعات، أو الإدلاء بتصريحات، أو القيام بجولة سياحية في الصحراء!
تماماً كما فعل السادات عندما جلس في استراحته في محافظة أسوان استعداداً للهروب إلى السودان، حيث صديقه الرئيس جعفر النميري، بسبب انتفاضة 17 و18 يناير 1977.. قبل أن يدخل عليه وزير الحربية عبد الغني الجمسي ليخبره أن الجيش قمع المظاهرات وأن بإمكانه أن يعود إلى القاهرة، وقد دفع الجمسي ثمن هذا عزلاً من منصبه، فقواعد الحكم تحتم إبعاد كل من له فضل في تثبيت السلطان في موقعه!
لقد انتهى السادات يوم خروج هذه المظاهرات، وإن كان الإعلان الرسمي بانتهاء حكمه كان في أكتوبر 1981 بعد اغتياله. تماما كما انتهى حكم عبد الناصر بهزيمة 1967 وكان القرار الكاشف لانتهاء حكمه يوم وفاته في سنة 1970.
وفي حالة السيسي فلن ننتظر أربع سنوات كما في حالة السادات، أو ثلاث سنوات كما في حالة عبد الناصر، فهذه أنظمة كانت مستقرة، أما حكم السيسي فهو على "جرف هار" من أول يوم، ولم يكن إلا بحاجة لإسقاط مخططه الذي تمثل في فرقة الثوار، ليصبح هشيماً تذروه الرياح.
ولإحساس واشنطن بهذه المعادلة، فقد كان موقف البيت الأبيض متعجلاً وهو يصدر بياناً، لا تخطئ العين دلالته، عن أنه يتابع الأمر في مصر عن قرب، في ضوء هذه الاحتجاجات، ووصلت الرسالة للسيسي وفي التو واللحظة كان قراره بفض المظاهرات بالقوة، ليثبت لمن هم في البيت الأبيض أنه قادر، لكن فاته أن الثوار قبل أن يغادروا كانوا قد وجهوا الدعوة لمليونية في يوم 25 أبريل، وهو يوم تحرير سيناء، كما فاته أن قوات الأمن قامت بفض مظاهرات اليوم الأول لثورة يناير، لكنها بعد ثلاثة أيام فشلت في القضاء على المظاهرات، ونجح الثوار في دخول ميدان التحرير وحمل مبارك على التنحي.
لقد انتهى السيسي في 15 أبريل، وهو الآن يلعب في الوقت الضائع. وقد كشف عن خطته للهروب، بعد انكشاف خطته في الحكم والسيطرة.