كتاب عربي 21

هل أتاك حديث المساواة في الإرث

1300x600
ما إن هدأ الجدل حول مسألة تحفيظ القرآن للأطفال من عدمه في المدارس التونسية، حتى تقدم تسعة عشر نائبا في البرلمان بمشروع قانون يخص مراجعة قسمة الميراث لتحقيق المساوة في الإرث بين الذكر والأنثى. ومن المتوقع أن تثير هذه المبادرة نقاشا ساخنا تحت قبة مجلس النواب ولدى الرأي العام لمدة لا يعرف كم ستطول.

كان أول من دعا إلى هذه المسألة أحد خريجي جامع الزيتونة في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي اسمه الطاهر الحداد. ويعتبر هذا الرجل من بين الشخصيات الإصلاحية التونسية التي أثارت جدلا عاصفا بسبب كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع". وهو الكتاب الذي طرد بسببه من "الزيتونة"، وجرد من شهادته العلمية التي حصل عليها، وشنت ضده الأوساط المحافظة حملة قوية وقاسية، عجلت بوفاته، ولم يحضر جنازته سوى عدد قليل من المثقفين. حتى الزعيم الحبيب بورقيبة الذي سينفذ جزءا واسعا من إصلاحاته بعد توليه السلطة، تجنب المشاركة في تلك الجنازة حتى لا يفقد بعض شعبيته في تلك المرحلة.

ورغم أن بورقيبة كان ينوي إدراج مسألة المساواة بين الجنسين في الإرث ضمن مجلة الأحوال الشخصية، إلا أنه تراجع في آخر لحظة خشية حصول ردود فعل واسعة ضد هذا القرار، نظرا لوجود نص قرآني صريح وقطعي الدلالة في هذا الشأن.

في مطلع التسعينيات، شنت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات حملة واسعة النطاق من أجل تعديل قانون الميراث، وروجت لعريضة لتأييد هذه الدعوة، إلا أن الاستجابة لذلك كانت محدودة جدا لم تتجاوز الألف توقيع، في حين أن صاحبات المبادرة كانت تنوي بلوغ مليون مؤيد لها. حتى السياسيون الحداثيون والمثقفون أيضا لم يتفاعلوا مع الحملة لأسباب مختلفة. كما أنه لم يكن الرئيس السابق بن علي ونظامه على استعداد للقيام بمثل هذه الخطوة.

اليوم تتجدد الرغبة في خلخلة قانون الإرث بعد دخول البلاد في تجربة ديمقراطية لا يعرف إلى متى ستبقى مستمرة وقادرة على مواجهة التحديات والتهديدات. ويطرح هذا المشروع في مرحلة تمسك خلالها حركة النهضة بكثير من خيوط اللعبة، سواء داخل السلطة أو خارجها، خاصة وأنها تعتبر حاليا الحزب الأول في البلاد من حيث عدد النواب بالبرلمان مقارنة ببقية الأحزاب والكتل.

تبدو حركة النهضة وكأنها تقف فوق سطح مرتفع. إذ كلما وجدت نفسها مضطرة من أجل أن تستوعب خصومها تقبل بأن تتنازل وتبدي موافقتها على مطلب ما، لكن بدل أن يرحب هؤلاء بتلك الخطوة التي أقدمت عليها بصعوبة، يفاجئونها بمطلب آخر وحملة أخرى مناهضة لها، ويتهمونها مجددا بالمناورة والنفاق السياسي، ويعملون على دفعها نحو التراجع إلى الخلف حتى تسقط وتذهب شظايا. هذا الأمر جعل قيادة الحركة في وضع صعب أمام قواعدها التي أصبحت تتساءل عما تبقى من هوية الحزب في ضوء هذا النسق المتسارع مما يعتبره كثير من أبناء الحركة تنازلات وليس تعبيرا عن تطور ذاتي نابع من وعيها الذاتي.

لم يكن عفويا أن يأت أول رد فعل على مشروع قانون تعديل الإرث على لسان عضوة بالبرلمان تعتبر من بين القياديات بحركة النهضة السيدة يمينة الزغلامي التي عبرت عن استغرابها من هذه المبادرة، واستنكرتها، وقالت عن أصحابها إن "هؤلاء يريدون إدخال البلاد في حائط"، وهي عبارة تونسية تقال عندما يقع الدفع نحو طريق مسدود.

سيكون من المستبعد أن يمر هذا المشروع نظرا لوجود أغلبية برلمانية ستحول دون اعتماده، خاصة بعد أن طلبت الجبهة الشعبية اليسارية من نوابها سحب تواقيعهم من العريضة التي أعدها النائب مهدي بن غربية، وأيضا بعد أن اتخذت كتلة الحرة المنشقة عن حزب تونس مسافة من هذه المبادرة. لقد أدركت "الجبهة" أن انخراطها في هذه العملية من شأنه أن يجرها إلى معركة خاسرة. فرئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي معترض على هذه الخطوة مجهولة العواقب، وسيضع يده في يد الغنوشي لمنع المساس بنظام الإرث. لكن ما يخشى في هذا السياق هو الصراع الذي سيفجره هذا المشروع من جديد بين النهضة وخصومها من جهة، إلى جانب الغليان الأيديولوجي الذي سيستأنف نشاطه من جديد، والذي ستستغله بعض الأطراف المتشددة والعنيفة من أجل تبرير الحرب على الدولة والمجتمع بحجة سيطرة القوى المعادية للإسلام على مقاليد الحكم في البلاد.

لا يتعلق الأمر بمدى شرعية الدعوة إلى المساواة بين الجنسين في التمتع بمختلف الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فهذه المسألة مطروحة للنقاش حتى داخل دوائر الفكر لإسلامي، وهناك اجتهادات لتقريب الفجوة بين الذكر والأنثى، وإن كانت هذه الاجتهادات لم تحظ حتى الآن بتأييد أغلب الفقهاء. 

يكمن الإشكال حاليا في السياق التاريخي الصعب الذي تمر به تونس بعد الثورة، فالوضع الراهن يختلف كليا عن مرحلة الاستقلال وبناء الدولة ووجود زعيم يتمتع بثقة عموم الشعب. هناك حاجة ملحة اليوم لكثير من الحكمة واحترام عامل الوقت حتى يقع هضم ما ما أنجز، وحتى تعطى الأولوية لمسائل أخرى حارقة لا تزال عالقة مثل القضاء على البطالة، وإنعاش الدورة الاقتصادية، ووضع حد للنسق المتصاعد في مجال المديونية الخارجية. وشتان بين النظرتين. فتونس تحتاج اليوم إلى أن تعدل النخبة بوصلتها السياسية، وتعيد النظر في حساباتها وأولوياتها قبل أن ينهار السقف ويخرج الجميع من التاريخ في وقت قياسي.