يصطف السجناء بباحة السجن في انتظار وصول المأمور الذي يتفقد وجوه الوافدين الجدد بمجرد وصوله. يتوقف عند أحدهم مرحبا..
المأمور: أهلا.. حمد الله ع السلامة يا كابتن. ده انت نورت السجن أوي.
الكابتن: الله يسلم حضرتك. والله منور ب....
المأمور: اخرس. اوعى.. شوفوا بقا الكابتن، ده بيضرب رجالة الداخلية. شوفوا حيعمل معاكو انتو ايه؟
الكابتن: ممكن أقول لحضرتك حاجة؟
المأمور: اتفضل.
الكابتن: حضرتك يعني مش ..أنا لعيب كورة دولي وواخذ كأس مصر ومينفعش أوقف أتهزق مع الناس.
المأمور: لعيب كورة؟ يا أخي انكسف على نفسك. أنا لما كنت في سنك كنت بحارب الإرهاب مش لابس فانلة وشورت وبتزحلق على بطني في الاستاد.
الكابتن: لا يا باشا أنا مش بتزحلق. ده أنا لما بجيب الجول بعمل ايه؟ بروح قالع وجاري على ال....
المأمور: اخرس.. اتفضلوا من هنا. يالله..
كان هذا مشهدا من فيلم كابتن مصر للمخرج معتز التوني المنتج في العام 2015، حيث يتسبب اللاعب الشاب كمال، الشهير بكونغو، في حادث سير يودي بحياة أمين شرطة، وهو في عز شهرته ولمعانه. ولأننا في مصر حيث اللاعبون مجرد محدثي نعمة وأدوات ترفيه في دولة الآمنين، كما قدمها المخرج محمد أمين في فيلمه فبراير الأسود، حيث الأمان مضمون للجهات السيادية (الحكومة، أمن الدولة، المخابرات)، والعدالة (القضاء، النيابة، الشرطة)، والثروة (رجال الأعمال)، لم تشفع للكابتن كونغو لا دوليته ولا فوزه بالألقاب ولا شهرته التي فاقت الآفاق. لقد وضعه حظه العاثر في طريق أمين شرطة هو أعز عند الدولة من أي فرد آخر من القطيع.
قبل أيام، نعى الرئيس الأمريكي باراك أوباما أسطورة الملاكمة العالمية محمد علي كلاي بقوله: كان محمد علي عظيما. نقطة إلى السطر. لو سألته لأخبرك ولقال لك إنه كان عظيما عن جدارة.. إلا أن ما جعل هذا البطل عظيما فعلا هو أن الآخرين جميعا كانوا سيقولون لك الكلام نفسه تقريبا.
لم يعتبر أحد الرجل خائنا لأنه امتنع عن أداء الخدمة العسكرية في فيتنام، ولا اعتبروه إرهابيا لأنه اختار الإسلام دينا. لكنهم في المقابل اعتبروه رمزا وطنيا وأسطورة كونية وبكوا وداعه بكل احترام وإجلال.
في الدول العربية حيث يجاهد الساسة و"الزعماء" لإثبات الوجود رموزا لا منافس لها لدى العامة مسخرين لذلك كل وسائل الدعاية الإعلامية والسطو على إنجازات الآخرين، لا مجال لاحترام المواهب وتقدير النجاح وحب الناس. فكلما برزت موهبة من أي مجال يسعى "الزعيم" لاستثمارها دعما لـ "شعبيته" الزائفة أو إقصائها في حال رفض السير على منهج تعظيم منجزات القائد الملهم في السياسة والفن والرياضة وهلم من مواهب وهمية وإنجازات.
في مصر وفي كل دول العرب، لا يختلف اثنان أن محمد أبو تريكة نجم في اللعب والأخلاق. وحده النظام الانقلابي بمصر يرى غير ذلك، ويصر على امتهان صورة اللاعب ورمزيته في الأذهان. يكرم أبو تريكة أينما حل وارتحل، ويحجز على ممتلكاته في أرض الكنانة بدعوى تمويل تنظيم الإخوان "الإرهابي". ورغم محنته يصر الرجل على البقاء صامدا في بلده في وقت اختار فيها كثيرون الخروج منها والنفاذ بجلدهم من بطش سلطة لا تقبل منافسا ولو على المستوى الرمزي. هي محاولة مكشوفة لإفراغ البلد من رموزها الحقيقيين سعيا لنشر حالة إحباط عامة يفتقد فيها الجيل الشاب أعلاما يتأسى بها ونماذج للنجاح خارج سرب السلطة وقطيعها بما يسهل على الطغمة الحاكمة وضع اليد على البلد حاضرا ومستقبلا.
موعد مع الرئيس، محمد راضي، 1990.
داخل مقصورة القطار يجلس المعاق متولي على كرسي مواجها لرجل تعليم.
متولي: حضرتك بتقول أنك مدرس؟
المدرس: أيوه. لكن لا مؤاخذه، ده من أثر حادثة؟
متولي: لأ، ده مش حادثة. ده من أثر الحرب، حرب أكتوبر. أنا واحد من الناس ايلي عبروا قناة السويس ورفعوا العلم.
المدرس: حرب أكتوبر أعظم انتصار.
متولي: أيامها نقلوني المستشفى. كانت رجلي طارت. ربع جسمي سيبته في سيناء. وأياميها زارونا الكبار وجابوا لنا ورد واتصوروا معانا ونشروا صورنا في الجرايد لحد ما صدقنا أننا حنفضل أبطال.
المدرس: أنتم البطولة. مين نسي؟
متولي: كلكم نسيتوا. الورد ايلي استلمته نشف. اتركنت ع الرف. غطاني التراب. البطل ايلي اتنشرت صوره في الجرايد عاطل بياخذ معاشه صدقة..
جحود الدول العربية ومسؤوليها لنجومها في الفن والرياضة ورموزها في الثقافة والعلم والدفاع عن الوطن "ماركة مسجلة" من المحيط إلى الخليج.
في المغرب عشنا حالات لعشرات الأسماء كان لها بريقها قبل أن ينتهي بها المطاف على هامش الحياة. هي الوصفة ذاتها تتكرر مع شخصيات أدبية وفنية ورياضية: مريض تتحدث عنه الصحافة، يتكفل القصر بمصاريف العلاج، يتوفى المريض، يتوصل أهل الفقيد برسالة تعزية ملكية وتنقل قنوات القطب العمومي الجنازة، التي قد يحضرها وزير، ومعها شهادات أصدقاء وزملاء الراحل يذكرون بمناقبه إطراء ومديحا. يقفل الملف في انتظار حلقة جديدة من مسلسل بؤس لا ينتهي. وفي المقابل، يرفل بعض عديمي الموهبة والنبوغ في نعيم مستنقع الريع عطايا وأوسمة وامتيازات. هي الدولة المغربية جاحدة في حق الأحياء كما الأموات توزع عطاياها اعتمادا على قرب من مركز نفوذ أو انتماء حزبي يفضي لكرسي وزاري أو مقعد برلماني أو سفارة خارجية أو عضوية مجالس استشارية هنا وهناك. وقس على الحالة المغربية ما شئت من بلدان وطن عربي جاحد في حق أبنائه وأشقائه.
ليس الجحود استثناء عربيا، فقبل انطلاق مباريات اليورو 2016، عاد موضوع استبعاد كل من كريم بنزيمة وحاتم بنعرفة من تشكيلة المنتخب الفرنسي بدوافع "عنصرية" ليشكل مادة دسمة تقاذفها الساسة والرياضيون بما يؤشر على أزمة "هوية" لا تزال فرنسا الاستعمارية ترزح تحت وطأتها. ففي الوقت الذي استبعد فيه كثير من المشاهير من أصول مغاربية عدم دعوة اللاعبين الأفضل في الكرة الفرنسية أن يكون "قرارا رياضيا"، لم تجد مارشال لوبن، النجمة الصاعدة في حزب الجبهة الوطنية اليمينية، غير القول "إن كان لا يشعر بالسعادة فمن الأفضل له أن يعود إلى بلاده (الجزائر)". حفيدة جان ماري لوبن كانت قد انتقدت اللاعب في السابق بتهمة البصق على النشيد الوطني الفرنسي حين عُزف بإحدى مباريات الدوري الإسباني تضامنا مع باريس إبان الهجمات الأخيرة عليها.
بنزيمة متابع قضائيا بتهمة المشاركة في ابتزاز زميل له بالمنتخب على خلفية شريط جنسي. هو الآن في نظر العدالة مجرد متهم، لكن أصحاب القرار السياسي بفرنسا اعتبروه مذنبا لا يمثل "قدوة للشباب". في العام 1982، خففت العقوبة السجنية على الهداف باولو روسي، المتهم في قضية المراهنات الرياضية الشهيرة "توتونيرو" وتمكن بموجب ذلك من المشاركة في المونديال وإهداء اللقب إلى بلاده. وفي فرنسا، يمنع لاعب من أصول مغاربية من المشاركة في بطولة كأس الأمم لمجرد الشك في تواطئه في جريمة ابتزاز. وفي الوقت ذاته، لقي ميشيل بلاتيني، المتهم بالحصول على عائدات غير مشروعة من الفيفا في قضية تنازع مصالح واضحة للعيان، كل الدعم والمساندة من الدولة الفرنسية مؤسسات وأفرادا.
الدولة في المخيال الجمعي لدى الشعوب العربية أم، وإذا كانت الأم جاحدة فالأبناء على دين أمهم لا يفلتون الفرصة في الابتعاد عنها بحثا عن مجد شخصي أو وضع اعتباري أو فرصة تحسين دخل. أما المستفيدون من خيراتها فبالنواجد يعضون على امتيازاتهم مهما بلغوا من شهرة وثراء.
في المغرب دوما، رياضيون دوليون صالوا وجالوا في الملاعب والملتقيات وفنانون يتنقلون بين مواقع التصوير والمهرجانات محققين من زينة الحياة قدرا غير يسير، لكنهم يصرون على الاحتفاظ برواتب حكومية لا تسمن ولا تغني من جوع جشعا وطمعا في وقت يعاني فيه الأبطال البارا-أولمبيون الجحود والنكران. مدربون ورياضيون يمارسون في الأندية خارج البلد وداخلها ويمكنون من الترقي الإداري في فضائح أسالت كثيرا من الأسئلة دون وازع ضمير أو قرار حكومي شجاع.
في فيلم (عسل أسود) يجلس العم هلال على ناصية المقهى الشعبية ومعه مصري سيد العربي و صديقه سعيد.
عم هلال: ازاي أبوك؟
مصري سيد العربي: آه يا عم هلال ابويا ميت دلوقتي. كان نفسه يجي يعيش هنا في آخر أيامه بس ملحقش بقا.
عم هلال: أنا بستغرب على الناس ده. الواحد منهم يهاجر ويضيع عمره بره وفي الآخر يقول أنا عايز أرجع بلدي عشان أندفن فيها.. كأن البلد ده قرافة كبيرة..
هي فعلا "قرافة كبيرة" من جحود سلطتها وأبنائها على السواء.