حذرت في مقالي السابق من تصوير ما جرى في
تركيا قبل أيام على أنه مجرد انقلاب، وقد أثبتت الأيام القلائل الماضية أن ما جرى وما يجري قصة أكبر بكثير من مجرد انقلاب، فعلى سبيل المثال تحول الموقف الأمريكي من الشعور بالقلق في الساعات الأولى إلى تحليل جون كيري وزير الخارجية الأمريكية لأسباب فشل الانقلاب ثم إعلان كيري أن بلاده ستبحث ملف عبد الله جولن ثم اعلان أوباما بنفسه دعم تركيا وتفهمها للإجراءات التي تتخذها ما بعد الانقلاب الفاشل.
هذا التحول في الموقف الأمريكي يعطيك مؤشرا عن طبيعة ما يجري وما سوف يجري خلال الشهور والسنوات المقبلة وقد يمتد الأمر لعقود بدون مبالغة.
لعل أخطر ما في المشهد هو اغلاق أو بمعنى"ألطف" حصار قاعدة انجيرليك التركية وهي القاعدة التي تستخدمها أمريكا وحلف الناتو في تحركاتهم في المنطقة العربية وفي شرق أوربا ، هذا وحده يكفي للتعرف على شكل العلاقة بين تركيا والناتو والولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل ، من الذي سيقوم بصياغتها والتحكم فيها وفرض شروطه ؟ كيف سيكون شكل هذه العلاقة ؟ وما هي المساحات المشتركة؟
هذه هي إحدى نتائج ما بعد الانقلاب الفاشل، وإصرار تركيا على اللعب بهذه الورقة يعطيك إنطباعا بأن تركيا الدولة شعرت أن الوجود الغربي على أراضيها وتعاونه مع بعض الجنرالات لم يكن لتعزيز العمل العسكري المشترك عبر الناتو فقط بل كان في جزء منه تدخلا في الشأن الداخلي التركي.
وإذا كانت العلاقة مع الناتو يمكن النظر في إعادة صياغتها فأعتقد أن العلاقة مع الإتحاد الأوربي قد أعيد صياغتها فعليا حين أعلن الرئيس أردوغان أن تركيا ليست عضوا بالاتحاد وليست ملتزمة بأي مواثيق تنظم ملفات حقوق الانسان، بل إن أردوغان قد ذهب بعيدا حينما هاجم فرنسا بدون مواربة وقال بالفم المليان "إذا أردتم تعلم الديمقراطية فيمكننا اعطاوكم دروسا فيها" وهذا يعطيك فكرة عن شكل مستقبل العلاقة التي ظلت متأرجحة بين بلد مسلم اختارت له الجغرافية أن يكون في جزء منه داخل اوربا واختار له التاريخ أن يكون خارجها بل فائقا لها عبر الزمان الغابر ، وهو الأمر الذي لا تريد أوربا أن تتجاوزه وجاء الانقلاب الفاشل ليمنح أردوغان فرصة للتخلص من هذه العلاقة التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
أعتقد أن أوربا كانت ترى في تركيا مجرد جيش يمكن استخدامه كأداة ردع لخصومها في المنطقة وخارجها، و قد أدى فشل الانقلاب إلى إدراك الدولة والحكومة والرئاسة التركية أن الجيش بتركيبته الحالية هو أقرب للدولة داخل الدولة وأنه يتعين على أي دولة في أوربا أو خارجها أن تتعامل مع الدولة لا مع هيئة الأركان التي بدا للجميع بعد فشل الانقلاب أنها ترى نفسها أكبر من الدولة وأنها بمقدورها اقامة علاقات مباشرة مع الدول.
وفي هذا الإطار يمكننا فهم تصريحات رئيس الوزراء التركي مبكرا في أعقاب افشال الانقلاب والتي أعلن فيها أن رئاسة الأركان يجب أن تكون تابعة لرئاسة الوزراء، وهو ما يعني عمليا السيطرة على دولة الجيش داخل الدولة وهو حدث فريد لم يحدث في تركيا ولا في أي دولة في العالم الثالث على الاطلاق إذ لا تزال الجيوش ترى نفسها فوق الدولة و في أحسن حالاتها ترى نفسها شريكا للدولة.
ثم أعلنت الحكومة عن خطتها لنقل معسكرات الجيش التركي خارج المدن، وهو ما يعني عمليا منع الاحتكاك بين الجيوش والشعب، ويعني أمنيا عرقلة أي تحرك عسكري للسيطرة على مقاليد الأمور لاحقا.
إذن هناك إعادة صياغة للعلاقة بين الجيش والسلطة ، هذا على المستوى الداخلي ، وإعادة صياغة للعلاقة بين الدولة التركية والإتحاد الاوربي والناتو.
هل سيمر الأمر بسلام ؟ هذا هو التحدي الذي تمر به تركيا الآن وسوف تعيش لحظات حرجة حتى يتم اعادة الصياغة والاتفاق عليها من جميع الأطراف ذات العلاقة بالموضوع.
نعود إلى مغزى ما يجري وكيف تستقبله المنطقة المحيطة وخصوصا العرب؟
في منطقة خاضعة للنفوذ الأمريكي بالكلية ودون استثناءات لها قيمة، وفي ضوء ما يحكيه التاريخ عن علاقة الانقلابات في تركيا بالمخابرات المركزية الأمريكية وبالبيت الأبيض، وفي ضوء عدم تعليق رئيس المخابرات المركزية الأمريكية الحالي" جون برينان" على تورط بلاده أو علمها بالانقلاب الأخير، يمكنني القول وبمنتهى الأريحية أن دوائر الاستخبارات العربية في دول المحور الأمريكي في المنطقة العربية كانت على علم بالمحاولة بل كانت بعض الدول متأهبة لمرحلة ما بعد وصول الإنقلابيين في السلطة، ولعل حفلة الزار التي نصبها إعلام السيسي وإعلام "عيال زايد" منذ الإعلان عن الانقلاب تؤكد بعض ما ذهبنا إليه في هذا المقال.
هل سيقوم أردغان بإعادة صياغة العلاقة مع العرب على النحو الذي قد يمضي فيه في علاقته مع أوربا والناتو وربما أمريكا، سنتناول هذا الموضوع في مقال الأسبوع المقبل إن شاء الله.