باعتبار أنه كان حدثاً استثنائياً بامتياز في تاريخ
تركيا الحديث، فقد اشتمل الانقلاب الفاشل على عدد غير محدود من الدروس المستفادة على أكثر من صعيد، على مستوى الدولة والحكم والمعارضة والإرادة الشعبية والمؤسسة العسكرية ومختلف المؤسسات، لكن الدروس المستفادة على صعيد الحزب الحاكم ودينامياته الداخلية لا تقل أهمية عن كل ما سبق.
فالمستهدَفون الأساسيون من المحاولة الانقلابية كان الرئيس
أردوغان وحزب
العدالة والتنمية وتجربته وسياساته، وبالتالي فقد شكل فشلها فرصة لهؤلاء لتقوية المواقف واستمرار السياسات. لكن، أكثر من ذلك وقبله، فالدروس المستفادة من داخل العدالة والتنمية أكثر وأعمق وأعقد من مجرد الاستفادة من فرصة فشل الانقلاب لإحكام السيطرة.
لئن كان الميدان - عسكرياً وأمنياً - هو العامل الفاصل في حسم المعركة مع الانقلابيين، إلا أن عدداً آخر من العوامل أسهم بشكل كبير في كسر شوكة التحرك، في مقدمتها حرمان المجموعة الانقلابية من أي ظهير شعبي أو سياسي من خلال تجمع الناس في الميادين لرفض الانقلاب حصراً بدون حشود مضادة إضافة إلى إجماع القيادات السياسية في الحكم والمعارضة على رفض تدخل الجيش في السياسة، وهو مشهد شكل أرضية لتوافق وطني وصل ذروته في فعالية "الديمقراطية والشهداء" في إسطنبول أمس.
هذه "الجبهة الوطنية" كانت معلماً من المعالم التي حرص عليها الحزب الحاكم في تركيا منذ تأسيسه؛ باعتباره حزباً جماهيرياً أو "حزب كتلة" مشكلاً من عدة تيارات إسلامية وقومية وليبرالية ويسارية، وليس حزباً أيديولوجياً محضاً. وعلى مدى سنوات طويلة بقيت هذه التيارات متآلفة تحت راية العدالة والتنمية بقيادة أردوغان. بيد أن عدداً من التطورات والمتغيرات الحزبية والداخلية والخارجية كانت وراء ابتعاد أو تهميش بعض هذه التيارات لصالح خطاب شبه مؤدلج.
أكثر من ذلك، فقد ابتعد عن المشهد القيادي في الحزب والحكومة أهم الشخصيات المؤسسة للحزب مع أردوغان؛ وصانعي النهضة التركية الحديثة معه، في مقدمتهم الرئيس السابق عبد الله غل، ورئيس الحكومة السابق أحمد داود أوغلو، ورئيس البرلمان الأسبق بولند أرينتش، ووزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان، ونائب رئيس الحزب الأسبق حسين تشيليك، وغيرهم.
وبنظرة سريعة على واقع الحزب الحاكم والحكومة قبيل الانقلاب، لا تقع عين المراقب إلا على الرئيس أردوغان ورئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان (رجل السر البعيد عن الإعلام)، في غياب تام لكل "الرموز" والأسماء الكبيرة التي عرفها المواطن/ الناخب التركي وأحبها ووثق بها، بل لعل الكثير منها طاله الكثير من التشويه والاغتيال السياسي والإعلامي؛ دون أدلة كافية وفي أحيان كثيرة لمجرد الخلاف مع الرئيس.
طرحت هذه المتغيرات أسئلة مهمة حول كيفية الانتقال القيادي في رأس هرم السلطة في بلد كتركيا، في مرحلة ما بعد أردوغان، وحول ثمن هذا الانتقال ومستقبل تجربة العدالة والتنمية في ظل سيناريوهات كثيرة لا تبعث على شعور عميق بالاطمئنان؛ شبيه بذاك الذي ساد على مدى سنوات حكم العدالة والتنمية الـ13 الأولى.
في ظل تلك الظروف، كان غياب أردوغان أو تغييبه؛ يعني الغموض، وعدم اليقين في ما يتعلق بخليفته وطريقة اختياره وأسلوب قيادته، ومستقبل الحزب والحكومة والبلاد في عهده، بعد أن أفرغ محيط أردوغان من القيادات الثقيلة الوازنة، وكان أهم معيار في اختيار خليفة داود أوغلو ألا يحمل أي طموحات سياسية ولا رؤى قيادية بل أن يكتفي بالبعد التنفيذي. ولعله كان من اللافت أن خطة الانقلابيين لم تتضمن أي إجراءات أو قرارات كبيرة (اعتقال أو اغتيال) بخصوص أي سياسي في تركيا خارج إطار الثنائي أردوغان - فيدان، ولا حتى رئيس الحكومة!!!
في الساعات الأولى للانقلاب، كان عبد الله غل واحمد داود أوغلو (وعلى مسافة منهما بولند أرينتش) من أوائل من ظهروا على شاشات الإعلام التركي بسقف خطاب عال ومواقف حاسمة وحازمة في مواجهة الانقلاب، كما أكثروا من مشاركاتهم الإعلامية لدعم الإجراءات الحكومية في الداخل وشرح الوضع التركي للإعلام الأجنبي، واعتليا منابر التجمعات الحاشدة في الشوارع والميادين، جنباً إلى جنب مع قيادات الحزب الحاكم والحكومة.
إن الدرس الأهم الذي يجب استخلاصه على مستويات الرئاسة والحكومة والحزب الحاكم؛ يتعلق بالمشهد الداخلي للعدالة والتنمية، وضرورة لملمة الصف الداخلي وتقويته، وإعادة الاعتبار للشخصيات والتيارات التي همّشت على مدى السنوات القليلة الماضية بسبب الاختلاف في الرأي مع الرئيس أو قيادة الحزب. لقد أظهرت هذه الشخصيات - معظمها على الأقل - أنهما عملة نادرة من القيادات التي تقدم المصلحة العامة على الخاصة وتنحي الخلاف وتظهر المواقف القوية المشرفة في الأزمات، بما ساهم بشكل كبير في ترك الانقلابيين بلا ظهير سياسي وساعد على إفشالهم.
على مدى الأيام الماضية، للأسف، راجت بعض الإشاعات حول عدد من الشخصيات المذكورة أعلاه؛ على أنها كانت "الذراع السياسية" الجاهزة للتفاعل والعمل وتسلم الحكم بعد نجاح الانقلاب، دون أدلة أو قرائن قوية. ولئن كان من الصعب الجزم بصحة هذه الإشاعات من عدمها في ظل غياب المعلومة، إلا أن تجربة السنوات الماضية تقودنا إلى الحكم عليها بأنها مناورات من بعض صغار السياسيين للمزايدات وتصفية الحسابات، وهو مدخل خطير تبدو تركيا وحزبها الحاكم في غنى عنهما في هذا التوقيت بالذات.
إن لحمة العدالة والتنمية الداخلية، وإعادة احتواء وتقديم أصحاب السابقة والخبرة والثقة والمصداقية؛ من أهم الخطوات التي يمكن أن تقوي الحزب الحاكم في مواجهة المخاطر التي تتهدد تجربته، كما أنها تقدم ضمانات في غاية الأهمية حول مستقبل الحزب والحكومة وتركيا، من خلال إجابتها على السؤال الأهم، وهو سؤال الخلافة أو انتقال القيادة أو "مرحلة ما بعد أردوغان".