تشهد هذه الأيام التحول السريع ليانيس فاروفاكيس، وزير المالية
اليوناني السابق في حكومة سيريزا، إلى أخطر رجل في
أوروبا! والسبب هو لا شيء آخر إلا أنه يريد أن يحول الاتحاد الأوروبي إلى
الديمقراطية، ولأنه فضح حاجتهم اليائسة للتحول إلى الديمقراطية.
لقد قدم فاروفاكيس استقالته من مجلس وزراء سيريزا (تحت الضغط)، عندما رفض قبول خطة تقشف الترويكا، كما رفض قبول شريحة ضخمة أخرى من
قروض صندوق النقد الدولي الجديدة؛ كان من شأنها أن تستعبد الاقتصاد اليوناني تحت عبء عدم القدرة على الوفاء بدين غير مسبوق في الضخامة.
ولكن لمدة خمسة أشهر كاملة، تمكن هذا الاقتصادي اليساري الجذري من اختطاف نظرة من داخل هيكل السلطة في أوروبا، ليعرف طريقة صناعة القرارات. واليوم نجده يشارك شعوب أوروبا بكل قوة، وبلاغة، فيما رآه وعرفه، وما قاله حتى الآن يعتبر شيئا مروعا بجميع المقاييس!
عندما بدأ فاروفاكيس ممارسة مهام منصبه لأول مرة، حضر اجتماعا لمجموعة اليورو، التي تضم وزراء مالية جميع دول الاتحاد الأوروبي التي تستخدم اليورو. والترويكا كما نعرف هي التي ترأس مجموعة اليورو، وهي تتألف من ممثلين عن كل من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي. وفي هذا الاجتماع خاطب فاروفاكيس الوزراء بشأن خطة التقشف التي طُلِبَت من اليونان، والتي من أجلها انتخب الشعب اليوناني حكومة سيريزا خصيصا لكي تعارضها. وأخبرهم أن الحكومة الجديدة مستعدة لتقديم تنازلات للترويكا، ولكنهم هم أيضا (كوزارة منتخبة) لديهم مسؤولية تجاه ناخبيهم، لكي يتمكنوا من تنفيذ وعودهم للشعب اليوناني، واتخاذ خطوات لتنمية الاقتصاد المحلي. باختصار، كان يخبرهم بأن خطة الترويكا يجب أن يتم تغييرها لتعكس إرادة الشعب اليوناني، وتخدم مصالح إنعاش الاقتصاد. ولكن فولفغانغ شويبله (وزير مالية ألمانيا) قام فورا بمقاطعة فاروفاكيس ليقول له: "غير مسموح للانتخابات أن تقوم بتغيير السياسة الاقتصادية لليونان!"
ومن ثم قدمت الترويكا عرضا لفاروفاكيس، عبارة عن قرض من صندوق النقد الدولي جنبا إلى جنب مع خطة شاملة للتقشف؛ سيكون من شأنها أن ترسم السياسة الاقتصادية لليونان على مدى السنوات العشرين المقبلة. وقد اعترفت كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي، لفاروفاكيس بأن برنامج التكيف الهيكلي لن ينجح، ومع ذلك كان من الضروري القبول به من أجل "مصداقيته" هو السياسية، ومن أجل حماية ما استثمرته الترويكا من رأس مال سياسي لإثبات فاعلية التقشف. وبشكل أساسي، هذا الكلام يعني أن سلطة صندوق النقد الدولي السياسية لإملاء السياسات الاقتصادية، التي تسبب في إفلاس الدول، لا بد أن تحترم أيا كانت الأسباب.
لماذا؟
هذا هو السؤال المهم! لقد أجاب شويبله هذا السؤال في محادثة خاصة مع فاروفاكيس عندما قال له إنه لن يسمح لأي من الدول المحيطية، مثل اليونان، أن تتحدى سياسة التقشف؛ لأن الهدف مما يفعلونه هو "نقل الترويكا إلى باريس". وبعبارة أخرى، هم يريدون الاستئثار بمركزية واحتكار السيطرة على السياسة الاقتصادية حتى على الاقتصادات الأكثر أهمية في أوروبا، من أجل السيطرة على القارة بأكملها، وأثناء القيام بذلك، سيتم تخريب أية آليات للديمقراطية ستكون ما زالت قائمة.
ومثال بسيط على هذا، فإن فاروفاكيس يعتقد أن مجرد المطالبة بأن يتم بث الاجتماعات المغلقة لمجموعة اليورو على الهواء مباشرة عبر شبكة الإنترنت؛ يعتبر أمرا شديد الثورية والديمقراطية... وها أنتم ترون أمامكم كيف أن عملية صناعة القرارات في الاتحاد الأوروبي أبعد ما تكون عن الديمقراطية، فهي غير قادرة أن تتم بأمان أمام الجماهير!
كل هذا سيأتي بمثابة مفاجأة كبيرة لمعظمنا في العالم الإسلامي؛ لأننا نتصور أن أوروبا هي المركز الكبير للديمقراطية. ولكن فاروفاكيس يهدم كل هذا الوهم الذي نعيشه نحن وشعوب أوروبا، ويفضح حقيقة هذه السلطة الخاصة والطبيعة المعادية للديمقراطية للرأسمالية العالمية اليوم. أنا أنصح الجميع أن يستمعوا بعناية إلى رسالته، لكي يتم تكييف استراتيجياتنا من أجل التحرر، وفقا لهذه المعلومات التي يهديها إلينا هذا الرجل، والتي لا تقدر بثمن.