أتذكر تلك الكراسات خضراء الغلاف، رديئة الصنع التي كنا نستخدمها في أثناء الدراسة. كان والدي رحمه الله يشتري الكراسات، ثم كانت أمي تضعها لي في حقيبة المدرسة.
رحمة الله عليهما
على إحدى هاته الكراسات، قرأت عبارة رسخت في ذاكرتي منذ ذلك اليوم: لا تصدق كل ما تسمعه ونصف ما تراه !
أي إن كل ما تسمعه غير حقيقي حتى تتيقن منه، ونصف ما تراه قد يكون مخالفا للحقيقة.
وأنا أعمل بهذه الجملة البسيطة منذ طفولتي.
وليسمح لي أخونا العزيز خالد السرتي الذي كتب على صفحته يلوم من يشككون في الفيديو الذي ظهر فيه سائق التوكتوك، ويتساءل لماذا ينشط حسُّنا المخابراتي، أن أجيب على سؤاله: (لماذا الحس المخابراتي) في عدة أسئلة.
أخي المهندس خالد، هل تأكدت أن يد النادل التي قدمت لك الطعام (الذي يبدو فاخرا) نظيفة؟
هلا ألقيت نظرة على المطبخ الذي خرجت منه الوجبة التي تتصاعد رائحتها الشهية؟
ألم تستغرب لبث الفيديو على قناة الحياة المملوكة لأحد أهم داعمي الانقلاب؟
ألم تستغرب كيف تسرب هذا الفيديو العاطفي من السيطرة المخابراتية على إعلام العسكر؟
ألم تستغرب الجرأة المفاجئة لعمر الليثي بعد ثلاث سنوات من الانقلاب؟
ثم ألم تستغرب مرور الفيديو بسلسلة طويلة من المعدين والمصورين والمخرج، ووصوله إلى شاشة القناة دون أن يصل الأمر إلى المخابرات التي تدير الإعلام ليصل إلينا في النهاية ؟
نيرة الكويتية أبكت الملايين وهي تتحدث أمام الكونجرس عن جنود صدام وهم يقتلون الأطفال في إحدى المستشفيات.
ثم اتضح بعدها أنها ابنة السفير الكويتي بواشنطن، وأن الأمر كان لعبة مخابراتية دعائية.
الرسائل الدعائية الممتازة يجب أن تكون مشحونة بالعاطفة حتى تمرر ما نسميه في مجال الإعلام والدعاية وتوجيه الرأي العام باسم Subliminal Message أي الرسالة اللا شعورية.
والرسالة اللا شعورية التي يبثها فيديو سائق التوكتوك، تحتوي في الحقيقة على عدة فخاخ.
ففي البداية، هو يعترف بشرعية الانقلاب عن طريق الحديث بصورة تلقائية عما أسماه بانتخابات الرئاسة، ثم ترتفع النغمة ليتحدث عن الفشل بلهجة تسحب المستمع معها عاطفيا وتضع الفشل الاقتصادي عنوانا للثورة!
ويقودنا هذا بالطبع إلى منطلقات علمانية، بمعنى آخر إعادة تصفيف شعر الثورة بمشط علماني يحمل شعارات العدالة الاجتماعية. أي ثر ولكن دون أيديولوجية!
الفيديو يجر مشاهده إلى هذا المربع.
والفخ الثاني، هو أنه في طريقة إلقائه العاطفية يقدم خطابا قوميا مشحونا بالعاطفة، ويتحدث بصورة متعجرفة عن الحجاز والسودان وتشاد وهم مسلمون.
الفيديو يجر المشاهد إلى مربع خطاب قومي متعجرف ينشر الضغينة بين الإخوة، في وقت تتصاعد فيه حدة الأزمة بين الانقلاب والسعودية. وفي وقت تتعرض فيه المنطقة بأكملها لمخطط إعادة تقسيم المُقَسَّم.
اللعبة هنا هي نزع الصبغة الأيديولوجية عن فعل الثورة، وتحويلها إلى ثورة بعناوين جديدة غير الحرب على الإسلام.
وربما رأى البعض أن هذا التحليل يذهب بعيدا، ولكنني أؤكد كمتخصصة أن أساليب توجيه الرأي العام أشد خبثا من هذا، ولا يفطن إليها الكثيرون.
ويقودنا هذا إلى التساؤل الذي طرحه أخونا المهندس خالد، أليست هناك دوائر في مؤسسات العسكر تعارض عسكري الانقلاب ؟
والإجابة هي: بالتأكيد نعم!
ولكن بمن تتصل تلك الدوائر؟
كتبتُ منذ أكثر من سنة عن سيناريو محتمل، يتم فيه بعد تحطيم هيكل الإخوان المسلمين باستخدام الجيش، الوصول إلى حالة من الفشل في كل المجالات، تجعل الجميع يقبلون بحل لا مكان فيه للإخوان المسلمين، ولا عودة فيه للشرعية.
والأمريكيون يقولون هذا صراحة، وهذا ليس سرا وسبق أن كتب ذلك دنيس روس في الفورين بوليسي منذ سنتين.
هل هذا ما نريده؟
في بداية العام كتبتُ محذرة من لعبة هشام جنينة، وكتب وقتها الأستاذ وائل قنديل مستنكرا تحذيري، ثم بعد أن اتضحت معالم الفيلم وأنه كان حقا لعبة خبيثة انطلت على البعض، كتب مقالا اعترف فيه أن الأمر كان ملهاة رأى ضرورة الاستفادة منها.
كتبتُ عن عدة أمور أخرى وخونني البعض، كلعبة تقديم الملك سلمان كصديق للشرعية، التي انجرف وراءها البعض شهورا، ثم اتضح في النهاية أنني على صواب.
بالمناسبة يمكنني التنبؤ بالإجراءت التي ستتخذ لإكمال العملية، كوقف عمرو الليثي عن العمل بل والتحقيق معه، وربما حبسه وربما اعتقال سائق التوكتوك لحشد الرأي العام خلف منطلقات رسالته.
أستطيع أن أسرد قائمة طويلة من الألعاب الإعلامية التي مورست على معسكر الثورة، كميريهان حسن والمذيع أبو بيجامة وبائع الفريسكا وألعاب أخرى أكثر جودة وإحكاما كمسرحية هشام جنينة، التي استمر عرضها شهورا طويلة.
وأعلم أن محاولة تحليل المواقف المشحونة بالعاطفة قد تثير استهجان البعض، ولكني أتحدث هنا كإعلامية تعلم بحكم مهنتها واطلاعها كيف يتم تكوين الرأي العام وتوجيهه بوسائل شديدة الخبث، قد تبدو للكثيرين بريئة.