أعترف بأن المجزرة هذه المرة هزتني هزا شديداً. فاقت هذه التفاصيل المأساوية قدرتي على التجلد، فظللت أبكي كلما شاهدت صور هؤلاء الشباب. ليلة كاملة قضيتها وأنا أبكي، أكتب ثم أمحو ما كتبته. هذه مجزرة رابعة ثانية أعيش تفاصيلها بكل عجزي وقلة حيلتي. كل هذا النبل المحتشد على ملامح الشباب في الصور التي شاهدناها وهذه الابتسامات تحار في فهمها. هناك شيء ما في صورهم يبعث على القشعريرة.
إقرأ أيضا: السلطات المصرية تنفذ حكم الإعدام بحق 9 من معارضي الانقلاب
هذه الابتسامات العجيبة التي ترى فيها مزيجاً من الحزن والطمأنينة وحكمة الشيوخ وهذه الملامح النبيلة. كل شيء يخص هؤلاء الشباب يبعث على البكاء. صورهم وتفاصيل حياتهم وذلك الصبر الذي تعاملت به أسرهم مع استشهادهم. لا أستطيع نسيان صورة أم ليلى وهي تقف في المحكمة ترفع ابنتها الصغيرة التي ولدت في غياب أبيها، وصورتها الأخرى وهي تخبر زوجها أحمد وهدان أن أسنان ابنتهما بدأت في النمو وتلك السعادة على وجهيهما. الحقيقة أنني مازلت لا افهم كيف تصل القسوة بالبعض إلى الدرجة التي تسمح لهم بأن يشاركوا في تحطيم أسرة! كيف ينام هؤلاء وقد شطروا تلك الأسرة الصغيرة إلى نصفين؟
جنرالات مبارك أوقفوا شباب 25 يناير أمامهم ليحاكموهم ثم عاقبوهم على أنهم أرادوا التغيير. هؤلاء الشباب قُتلوا مرتين: مرة وقت وقوع الانقلاب في 2013 وما تلاه من مجازر ومرة أخرى يوم الأربعاء الدامي.
لقد وجدتني أبكي وأنا أنظر إلى صورة أم ليلى وزوجها. تصور الأمل الذي كانت تحتفظ به في أن يمر كل هذا وأن يعود إليها زوجها. كيف استطاع هذا القاضي أن يحطم أسرة صغيرة كهذه؟ لقد أصبت بالذهول وأنا أستمع إلى كلمات محمود الأحمدي وهو يخبر القاضي بأنه تعرض للتعذيب في أمن الدولة وبأن ضابط أمن الدولة أخبره أنهم سيلفقون له تهمة قتل نائب عام الانقلاب. لقد كان القاضي يعلم أن هؤلاء الشباب مظلومون. بماذا شعر حين أخبره أحمد الدجوي أنه كان معتقلاً ثم لفقوا له التهمة؟ كيف استطاع هذا القاضي أن يصدر أحكاما بالإعدام على هؤلاء الشباب وهو يعلم أنهم مظلومون؟
إقرأ أيضا: وداع مؤثر لأمهات معارضين أعدمهم النظام في مصر (شاهد)
أبو بكر الشافعي مثلاً أصيب باضطراب عقلي تحت التعذيب، وأبو القاسم علي اعتقلوه بعد ما يقل قليلاً عن سنة من اغتيال نائب عام الانقلاب. هذه التفاصيل المريرة والتي لا يتسع المقال لذكرها، كلها تشهد على أن مصر تعيش مرحلة هي الأسوأ في تاريخها. هذه التفاصيل على مرارتها وقسوتها إلا أنها في نظري تتضاءل أمام حقيقة أخرى وهي أن أعمار بعض هؤلاء الشباب كانت تقل عن العشرين سنة يوم 25 كانون ثاني (يناير) 2011.
عبد الرحمن كحوش أحد الشهداء التسعة، كان في السادسة والعشرين من عمره وقت إعدامه وإسلام مكاوي كان في الثالثة والعشرين من عمره يوم الأربعاء الماضي، بينما كان أحمد حجازي يكبره بسنة واحدة. هؤلاء كانوا في الخامسة عشرة وفي السادسة عشرة من أعمارهم وقت تنحي المخلوع مبارك. ربما كان أحمد وهدان أكبرهم، حيث كان في الثلاثين من عمره.
هم من الجيل الذي استمع لبيان التنحي الذي ألقاه عمر سليمان والذي شهد محاكمة مبارك ودخوله القفص لأول مرة. هم من الجيل الذي شهد انتخاب أول رئيس. هذا الجيل الذي حلقت آماله عالياً ثم هوت وتحطمت في 2013 تحت جنازير دبابات انقلاب عسكري.
إن الصورة من بعض زواياها وكما أراها الآن هي أن جنرالات مبارك أوقفوا شباب 25 يناير أمامهم ليحاكموهم ثم عاقبوهم على أنهم أرادوا التغيير. هؤلاء الشباب قُتلوا مرتين: مرة وقت وقوع الانقلاب في 2013 وما تلاه من مجازر ومرة أخرى يوم الأربعاء الدامي.
إن ما حدث لهؤلاء الشهداء التسعة لا يقل إيلاماً عن مجزرة رابعة ويجب على كل مناهضي الانقلاب الآن التوقف عند اللحظة التي اُعدم فيها هؤلاء الشباب.
لماذا "غضب" الغرب لقتل خاشقجي ولم يغضب لإعدامات مصر؟
هل يعود السيسي وزيراً للدفاع؟!