(1)
انتظرت الطلة الإعلامية لخالد يوسف، لأعرف أيما يتكلم: المخرج؟ أم النائب؟ أم المثقف القومي الناصري؟ أم الإنسان؟
لهذا السبب تأخرت في كتابة هذا المقال، ولهذا السبب ذكرت اسم خالد عارياً بلا ألقاب، منتظراً الرداء الذي يفضل الظهور به، والخطاب الذي يراه مناسباً، والجمهور الذي سيقصده من خطابه، وبعد أن أطل خالد بالصوت والصورة لأول مرة منذ احتدام الأزمة، يمكنني أن أكتب.
(2)
الكتابة عن أزمة خالد، لا تنطلق من دفاع عن صديق، ولا من رغبة خبيثة في التملص منه والهجوم المبطن عليه، كما أنها لا تنحصر في النظرة الأحادية لما انكشف، سواء بالتناول الأخلاقي، أو السياسي، أو الدعوة للتسامح والتجاوز السريع عن طريق استخدام المواعظ العاطفية، و"كلنا بنغلط" و"من كان منكم بلا خطيئة"، أو من خلال الحيل الميلودرامية السهلة المصحوبة بالندم والبكاء وإظهار الانكسار بعد التوبة، وإلقاء الخطأ على آخرين تربصوا بنا وخدعونا..
الكتابة عن خالد تتسع لكل ذلك في فضاء إنساني درامي، يتحمل الكثير من الدرجات اللونية والظلال، ومن تباين الرؤى والتقييمات، وكذلك من فتح القضية لنراها في عموميتها؛ لأنها ليست قضية فرد، أو زلة استثنائية، لكنها ظاهرة معبرة عن الكثير مما يدور في حياتنا من الوسط الفني، إلى الوسط السياسي، مرورا بعلاقات الموظفين في الجهاز البيروقراطي ومكاتب العمل في القطاع الخاص، وكذلك في العلاقات داخل الجامعات والمدارس والنوادي والأحياء السكنية، لهذا وجب التعميم، فخالد هنا ليس إلا نموذج حالة، كأي شخصية روائية أو سينمائية، لا تعبر عن وجود فردي، بل عن قضية اجتماعية ينبغي مناقشتها.
(3)
من الناحية الإخراجية، بدا خالد في مرحلة عمرية انضج مما تداولته الصور في الإعلام، فشعره مصفف بعناية بحيث غابت الملامح الهيبية للشعر الطويل، كما بدا حليق اللحية في وسامة خمسينية تليق بالنائب البرلماني أكثر مما ترتبط بصوره المتداولة كفنان كاسر للتقاليد العتيقة، وأداؤه يتسم بالشجاعة والعناد والقدرة على المواجهة، واتضح ذلك مبكراً من قبوله للقاء، لكنه برغم التمكن في الأداء بدا مهزوزا زائغا يجتهد في إخفاء تأثير الصدمة، ويحاول السيطرة على حالته الداخلية بتقديم رسالة متوازنة لا يقدم فيها أي تنازلات، لكنه يطرح أسئلة يحفز فيها القوى القادرة على حل الأزمة، ويفتح بها الباب لتسوية الأزمة و"لمّ الموضوع"،.
وبالطبع لا أعترض من الناحية الإعلامية ولا حتى القانونية على التوصل لتسوية عادلة تنهي هذه المهازل الفضائحية الرخيصة التي يستغلها النظام في تمزيق المجتمع، بدلا من وضع خطط لعلاجها اجتماعيا واقتصاديا وتشريعياً، لكن اعتراضي سيظل قائماً على أسوب القفز على القضايا، وإغلاق ملفاتها دون علاج. إذ يكتفي النظام عادة باستغلال كل القضايا التي ينفخ فيها ويضخمها، ثم يهيل عليها تراب النسيان، ليأخذنا إلى قضية مستحقة أخرى، ثم يدفنها ويدفن اهتمام الناس بها، دون أي عائد مجتمعي، ودون أي اهتمام بعلاج أمراض وتقيحات المجتمع المهل.
(4)
اختار خالد أن يتحدث بصوت النائب المعارض، مع وجود مؤثرات في الخلفية تذكرنا بالفنان وبالإنسان، لكن إذا شئنا وضع تعريف قبل الاسم الذي بدأت به المقال، فستكون الطلة للنائب البرلماني المصري المعارض خالد يوسف، ومن هنا يبدأ النقاش:
اعتبر خالد أن الأزمة المثارة، مؤامرة من جانب "سلطات" تقاعست عن كشف المجرم الحقيقي، وهو بحسب النائب: الشخص الذي نشر الفيديوهات الإباحية، مؤكدا أن وزارة الداخلية رصدت كيفية انتشار الفيديوهات ولديها (منذ ثلاث سنوات) معلومات عن الأشخاص الذين قاموا بذلك، لكن القضية تخبو وتعلو بحسب مؤشر معارضة النائب للنظام. وحرص النائب على الربط بين الحملة ضده ومواقفه من رفض التنازل عن تيران وصنافير، ثم رفض التعديلات الدستورية.
(5)
النائب المعارض هنا يحدد لنا القضية في واقعة "النشر العام"، ويصرح بوجود كتائب إلكترونية نظامية تم استخدامها في الترويج لنشر الفواحش وإثارة الرأي العام، وهذا الكلام منطقي جدا ومفهوم لملايين المصريين (حتى من يشمتون في المخرج الذي فبرك 30 يونيو لصالح النظام!!).
لكن القضية بالنسبة لي لا تنحصر في هذه النقطة الإجرائية؛ لأن طبيعة القضية لا تشبه مثلا معارضة المخرج جعفر بناهي للنظام الإيراني، ولا معارضة فرناندو سولاناس للفاشية العسكرية في الأرجنتين، ولا هجرة العديد من الفنانين والكتاب نتيجة الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية. وبالتالي، فإن الأسئلة عن حقيقة الفيديوهات ستظل راسخة في ذهن المجتمع، حتى لو سقطت القضية جنائيا وتم إغلاق مسارها القانوني. وهذا ما يشغلني، وهذا ما يجب أن يهتم به "المخرج خالد يوسف"، وربما في مرحلة لاحقة "النائب خالد يوسف"؛ لأن القضية المهمة تفتح الحديث عن نمط العلاقات وتقاليد الإنتاج في الوسط الفني، كما ترتبط بتصور معلن عن حدود الاحترام في العلاقات الجنسية، ووضع حدود فاصلة تفرق بين العلاقات الخاصة، وبين الابتزاز الجنسي، أو التحرش، أو التسليع الكريه للمرأة، وكلها قضايا منتشرة في مجتمعنا، مع عجز شامل عن اقتحامها ووضعها على طاولة التشريح وبالتالي التشريع، لاستخلاص قوانين تنظم ظواهر كثيرة نعاني منها في قضايا إثبات النسب، والزواج العرفي، والاستخدام الجنسي غير المتكافئ، أو المتجاوز لحدود العلاقات الثنائية الخفية بالتراضي، وغير ذلك الكثير مما لا يتفق الناس عليه، ولن يتفقوا على وضوح لا يجرؤ عليه خالد وحده، لكن لا بد من دور لمراكز الأبحاث الاجتماعية والجنائية والمنظمات الأهلية، حتى نصل إلى برلمان عاقل يقر تشريعات لصيانة علاقات وحقوق المواطنين، بدلا من تسخيره لخدمة مصالح السلطة المهيمنة وفقط.
(6)
في حديثه عن السلطة، أكد خالد بشجاعة إيمانه بتكامل ثورتي 25 يناير و30 يونيو، مؤكدا أن الثانية كانت ثورة شعبية خرجت فيها الجماهير بالملايين، ولم تكن صنيعة ساعد في تلفيقها لصالح جهاز أو سلطة. وأوضح أن ارتداد السلطات التي خذلته لم يكن على 25 يناير وحدها، بل كان انقلابا على 30 يونيو نفسها، وهذا الموقف الشجاع يقتضي التعامل مع "السلطة المنقلبة" كخصم سياسي صريح، لكن خالد في عبارات كاشفة استمر في مد حبال الوصال، وحرص على غزل خفي مع بعض أطراف السلطة، وفي مقدمتهم ما ذكره بفخر مستخدما تعبير "الجيش المصري العظيم". وقال خالد في تقديمه لهذا التقدير جملة تستحق أن توقف عندها: "أنا بعرف أفصل كويس"، وكان يقصد أنه يفصل بين تربص بعض الأجهزة به، وبين قناعاته تجاه "ثورة يونيو" وتعاونه التالي مع نظام السيسي، لكن هذا الفصل وما ارتبط به يستحق فقرة درامية مستقلة، قد تغضب الصديق والنائب معاً، لكنها قد تعجب المخرج الجريء القافز فوق أسوار التكلس المجتمعي.
(7)
تعبير "الجيش المصري العظيم"، يبدو خارجا من كتب التربية الوطنية القديمة، ولا يجب أن يتسق دراميا مع بقية مواقف خالد المعارضة للسلطة في الطلة التلفزيونية، إلا إذا كانت هناك "عقدة إسقاط خفية" تربط بين صورة الجيش وسياساته وبين شخصية خالد وسلوكه، وهذا الارتباط الخفي هو الذي يدفع خالد لمواصلة الحفاظ على الصورة الناصعة للجيش، كحيلة نفسية للحفاظ على صورته الشخصية في المربع الإيجابي. فالجيش العظيم تعهد وأخلف، الجيش لم ينصر خالد في وعد عدم الاقتراب من السلطة، وفي قضية تيران وصنافير، ولا في صيانة الديمقراطية، فما الذي يجعله عظيماً في نظر خالد؟
السؤال: هل تبرئة خالد للجيش وتصويره إيجابيا تعكس رغبة نفسية في تبرئة نفسه من هذا "الفصل" بين كلام هنا وكلام هناك.. بين وعد هنا ووعد هناك، بين سلوك كان ولم يعد ملائما الآن؟
بمعنى، هل وعد خالد البنات (حسبما جاء في تحقيقات النيابة) بأنهن "نور عينيه"، هل استخدم غواية "هخليكي أد الدنيا" ليحصل على ما يريد؟
هل كان الحب في الحالين (الجيش والمخرج) فخاً للصيد وأداة للخداع، ثم تحول عند الفتيات إلى مبرر للسقوط؟
لن أجيب، لأن الإجابة تبدأ من تفكير جماعي يشارك فيه خالد، لأنني لا أحب أن أفصل، أنا أحب أن أربط الظواهر ببعضها.
(8)
لا يعجبني أن أقسو على أي إنسان، لكن لا يعجبني أكثر أن أتواطأ، أحب أن أنقد، وأحب أن أصحح، وأحب أن ابدأ في النقد والتصحيح بنفسي ثم بالمقربين، ثم بالآخرين إذا استطعت. ومن حق خالد وكل إنسان في أزمة أن أدعمه للنجاة من أزمته، حتى لو كان قد أخطأ، فالخطأ ليس هو الأزمة.. الأزمة أن نكابر في إصلاحه والتقدم خطوة باتجاه الأفضل، وأنا ممن ارتكبوا أخطاء لا تقل عن أخطاء خالد (إذا كانت لديه أخطاء من وجهة نظره)، لكن الفرق كان في ستر الله ورحمته، وأنا أدعو للجميع بالستر، لكن عندما تظهر القضية للعلن، لا أحب التكتم و"الطرمخة" وقرارات حظر النشر التي يطلبها مخبر ويقرها نائب عام لم يراع الفرق بين "الستر" و"التستر"، فالستر فصيلة، والتستر جريمة بحكم القانون، ودعما للمخطئين من أمثالي أوضح أن مصر كلها (وبموضوعية اكثر جُلها) تفعل ما فعله خالد، وبخاصة أبناء هذا الجيل وما تلاه من أجيال. فقد كان توماس في رواية كونديرا الذائعة "خفة الكائن التي لا تحتمل"، نموذجا للضياع في مجتمع قمعي يحتقر الحرية وحقوق الفرد. ومن خلال رحلة ضياع جنسي كان توماس يبحث عن حلم، عن أمل، عن أمل، عن ذاته الضائعة، وتحولت الرواية إلى كتالوج لجيل ضائع. لم يكن في تمرده إباحية، بقدر ما كان بحثاً عن سبيل آمن في صحراء مظلمة، لكن المناضل خالد يوسف اعتزل البحث مبكراً، ووضعه على الهامش في رف مكتبته الخاصة، واستطاب معايشة المرحلة بشروطها، لا بشروطه هو، وحقق في مساره المتقاطع نجاحا وشهرة، ربما كانا السبب في غوايته "المنفصلة" عن أهدافه الأولى، وهي أهداف لم تغب تماماً، لكنها ظلت هامشية تشبه الصور المتداولة أخيراً، والتي نرى فيها المصحف الشريف على مكاتب المسؤولين المضبوطين في جرائم رشوة، أو بتعبير مكثف تشبه شعار "تحيا مصر".
(9)
مرة عاشرة أؤكد أن خالد يستحق الدعم كإنسان وكنائب معارض، وأعتقد أن تشريح الخلل (الذاتي والموضوعي) جزء أصيل وضروري من هذا الدعم، خاصة وأن الأسئلة كثيرة والموضوع مجتمعي ولا يخص فرد.
وأنهي المقال بمفارقة تصلح أساساً لعمل درامي عميق أتمنى لو أتيحت الفرصة ليقدمه خالد بنفسه، والدراما تنطلق من الانقلاب الذي شارك فيه خالد ضد بجماليون، فالأسطورة تقول أن بجماليون كان فناناً عظيماً يتجنب النساء لأنه اقترب في عمله من العاهرات، وبعد فترة نحت تمثالاً رائعا للمرأة التي تسكن خياله أسماها "جالاتيا"، وسرعان ما أغرم بالتمثال الذي صنعه بيديه وتوسل إلى أفروديت لكي تنفخ فيه الحياة ليتزوجها، واستجابت له إلهة الجمال، لكن تأويلات الأسطورة ركزت على تمرد جالاتيا على صانعها التماسا لحريتها. ويبدو أن بجماليون الحديث أُعجب بالرذائل الرأسمالية، وقرر قبض الثمن مقدما من أي من جالاتيا. وهؤلاء البجماليونات الجدد إذا استمروا على هذا الأداء بلا كوابح وضوابط فإنهم يتحولون إلى نخاسين للرقيق، وموردين للجاسوسات وبضاعة أفرع العمليات القذرة في الأجهزة الأمنية والمخابراتية، أو قتلة يمسخون الأرواح حتى تنتحر الأجساد كما فعلوا مع مارلين مونرو وناتاشا وسعاد حسني وكثيرات..
(10)
بمناسبة بجماليون، تبقى لقطة أخيرة تتعلق بنظريات كثيرة ارتبطت باسمه، أختار منها نظرية عن دور الذات في تحقيق أهدافك في المستقبل، بمعنى أن الهواجس التي تسيطر على شخص في مرحلة ما، قد تتحقق ذاتيا في مرحلة لاحقة بقوة خفية من الذات نفسها. وهذه النظرية لا يمكن تطبيقها إلا إذا تجاوزنا سؤال من نشر الفيديوهات، إلى سؤال: من صورها؟ ولماذا احتفظ بها؟ لأن الإجابة على هذا السؤال تكشف اللذة المبتغاة من فضيحة كان ضحيتها يعد بنفسه لتخليدها وإعلانها لسد جوع نفسي أو هاجس ما يلح على الشخصية.
أخيراً، أرجو ألا أكون قد تجاوزت أو أسأت أو تسرعت بالكتابة في وقت يضر، أو تخليت عن الدعم و"فصلت" بين الشخصي والعام، وعذري أنني كاتب لا يستطيع أن "يفصل"، وعذري الأهم أنني وعدت بالكتابة في الموضوع ولا أحب أن أكون ممن يخلفون وعودهم.
tamahi@hotmail.com