يصعب القول بأن القوس الذي فتحته حادثة اغتيال الشهيد
محمد الزواري سيغلق بسرعة، إذ عاشت
تونس ولا تزال، أياما صاخبة ومليئة بسلسلة من المبادرات والتحركات الشعبية المعبرة عن رغبة جدية في تدارك ما حصل من تقصير فادح في بداية الحادثة، عندما حضر في جنازة المغدور به عدد قليل من أفراد أسرته.
وكانت المسيرة الضخمة التي شهدتها مدينة صفاقس محاولة شعبية لتكريم الشهيد، وإعادة الاعتبار له، في وقت حاول خلاله البعض التقليل من شأنه، حين سعوا إلى نزع صفة الشهادة عنه، بسبب دوافع أيديولوجية وسياسية، تتمحور حول ارتباطه بحركة "حماس"، وبسبب عضويته السابقة في حركة الاتجاه الإسلامي، التي أصبحت ما يطلق عليها الآن "حركة النهضة".
هناك أقلية من التونسيين لا يزالون مصرين على أن يقيسوا الأشخاص والأحداث من زاوية واحدة، وهي زاوية الخصومة الأيديولوجية، إذ يكفي أن يكون خصمهم له خلفية إسلامية، وله علاقة ما بدائرة الإسلاميين حتى توجه إليه السهام، ويقع الطعن في مصداقيته، وتتم المطالبة بإخراجه من دائرة الأبطال وصناعة الخير.
هذا ما حصل مع الشهيد الزواري، إذ قيل بأنه ليس شهيدا، بحجة أنه انتمى لحركة "حماس"، المتهمة عند هؤلاء، بكونها تعرقل القضية الفلسطينية.
وهناك من قال إنه كان يفترض في الزواري أن يقدم معرفته العلمية للجيش التونسي، حتى يساعده على مقاومة ظاهرة الإرهاب ويستأصله من جذوره، لا أن يحتكر هذه المعرفة، ويقوم بنقلها إلى "الحمساويين" الذين "لا يمثلون أغلبية الشعب الفلسطيني"، و"يعرقلون القضية الفلسطينية" و"يتحملون مسؤولة التراجع في القضية عشرات السنين إلى الخلف".
لقد هوجمت "حماس" بشكل غير مسبوق، بمجرد إعلانها عن كون الزواري ليس فقط منتميا إليها، وإنما لأنه يعد أيضا من بين قادتها.
ولهذا السبب بالذات، تم الطعن في مصداقية الشهيد، وبذلت جهود إعلامية وسياسية كبرى من أجل إظهاره في صورة المقصر في حق الدفاع عن وطنه تونس، مكتفيا بنقل خبراته العلمية لحركة "حماس"، في حين أن تونس كانت ولا تزال في أشد الحاجة لجهوده، في سبيل القضاء على الإرهاب.
لم ينجح هؤلاء في حملتهم المعادية، لأن الإشكالية الرئيسة التي كانت تقتصر عليها الجهود الجبارة التي بذلتها معظم الأطراف، كانت من أجل عدم تحييد الضمير النقي والأخلاقي لهذا المواطن عن الصراعات المحلية، والقول إن من حقه أن يقدم حياته لصالح قضية تتمتع بكامل مقومات المصداقية، وهي القضية الفلسطينية.
حاول البعض أن يثير التناقض مرة أخرى بين المحلي والعربي، وذلك من خلال القول بأن الدفاع عن تونس هو الأصل، وليس الدفاع عن فلسطين.
وهو قول كانت تردده الأنظمة المستبدة، حتى تتهرب من تحمل مسؤولياتها التاريخية، في حين أن منطقا من هذا القبيل لا يمكن القبول به والتسليم له بأهلية قيادة المرحلة الحالية في العالم العربي..
فمقاومة الصهيونية لا تتعارض مطلقا مع حب تونس والولاء لهم. إن إحداث تعارض بين الوطن وفلسطين يقع في مغالطة كبرى ومفضوحة، كما أن موقفا من هذا القبيل ينتكس بالفكر الثوري العالمي، ويرمي أصحابه إلى قطع الطريق، أمام إمكانية تقديم الدعم بمختلف أشكاله لفلسطين، بحجة أن هذه الممارسة الحضارية تتعارض مع مصالح الوطن الضيقة.
لم يقبل عموم التونسيين مثل هذا المنطق الشوفيني، واندفعوا نحو إعادة إحياء العلاقة الصحية والصحيحة بين الوطني والقومي، ونزلوا إلى الشارع، لتأكيد أن الصهيونية وباء يجب التصدي له، حتى لا يخترق كل الأسوار، ويفكك المجتمعات العربية والمسلمة، ويحول دولها إلى خراب.
إن التصدي للصهيونية شكل من أشكال تحصين البلاد، ودعم للمصالح الاستراتيجية لتونس.
قالت الجماهير التونسية كلمتها بوضوح، وهو ما جعل الأحزاب والهيئات تتفاعل مع صوت الشعب، وتتم الدعوة إلى وزيري الداخلية والخارجية من قبل أعضاء البرلمان، وتوجه إليهما أسئلة محرجة، ضمن تحميلهما المسؤولية الوطنية.
ويعود النقاش من جديد في تونس حول مخاطر
التطبيع مع
إسرائيل، وضرورة تجريم ذلك، عبر استصدار قانون جديد، ويكون صريحا في عباراته ودلالاته.
وهكذا، يتبين أن إسرئيل نجحت في الوصول إلى بيت الشهيد، وإطلاق الرصاص عليه، لكن كسبها السياسي لم يدم كثيرا، حيث إن جريمتها دفعت بالتونسيين إلى الشعور بالخطر، والمطالبة بمنع الطرق والمنافذ، وبذلك تبقى كيانا معزولا ومكروها سياسيا وثقافيا.