تصفح أي موقع إخباري الآن وستقفز في وجهك إن .شاء الله نافورة من الأخبار عن النصر العظيم الذي حققته قوات المنتخب على دولة ما لا أعرف اسمها.
هناك حالة من الصرع الكروي أصابت المواقع الانقلابية، فعصام الحضري ابتسم، وأصدقاء عصام الحضري يروون مواقف من حياته. ولابد أن هناك من يروي اللحظات الفاصلة في المباراة قبل إحراز الهدف أو الأهداف والموسيقى العسكرية تعزف والقنوات تبث الأغاني الوطنية وأفراد المنتخب يهبطون سلم الطائرة على صوت أغنية (صوت بلادي) الذي يدوي عبر الأجيال.
مغص إعلامي وصرع كروي وحمى مسعورة أصابت مواقع الانقلاب وليس هذا كل شيء.
فنحن بانتظار أن يهدي المنتخب النصر المنتظر منذ أجيال إلى طبيب الفلاسفة, قائد مسيرة التنوير الكروي وتجديد الخطاب الرياضي وهازم الجابون ومحطم الأمم الإفريقية وثعلب الغابات الاستوائية, وقائد سلاح الطيران يمسك بالمايك في أحد الاستوديوهات شارحا الضربة الجوية الأولى التي فتحت الطريق للمنتخب لاقتناص الفوز الصعب.
وربما يجري استدعاء الخبراء الكوريين لإقامة (بانوراما الجابون) لتعلق فيها صورة طبيب الفلاسفة وحوله أعضاء المنتخب وهو يشير بعصا إلى مواقع القوات الجابونية على الملعب وفوقهم الطائرات تنغلق نوافذها لتنطلق على ممرات الإقلاع لتبدأ الضربة الجوية الأولى وموسيقى عمر خيرت تصدح في خلفية المشهد.
ثم انتظر بعد كل ذلك حفلا مسعورا بأجواء العصر الحجري, لا تستغرب إن خرج فيه طبيب الفلاسفة على محفة يحمله حراس يرتدون جلد نمر والجميع يرقصون على إيقاع الطبول.
حتى السيدة الطيبة والدة عصام الحضري, لم يرحموها من الزفة المسعورة وأجروا معها لقاء لتتحدث في طيبة وعفوية عن دعائها لابنها الفلولي العاشق للمخلوع.
وهذه فقط البداية، فهناك ما يُسمى الاستوديوهات التحليلية وهو نوع من التهريج الحقيقي الذي يمارسونه بكل جدية، فهناك من يرتدي ربطة العنق وهناك وجوه عابسة جادة ومحللون على الخط من الاستاد وخبراء استراتيجيون كرويون يحدثونك برطانة تزدحم فيها المصطلحات السياسية حتى توشك أن تعتقد أنك تشاهد تغطية السي إن إن لحرب الخليج.
المشاهد المسعورة لم يكن ينقصها سوى بيان تذيعه القنوات الانقلابية بعد أن تقطع إرسالها لتبشر المصريين باندحار القوات الجابونية أو أي قوات بعد عملية عسكرية مذهلة شنتها قواتنا الكروية، وقف لها العالم مذهولا مبهورا مسحورا مندهشا مذهولا مسحولا مستغربا.. الخ. وأن معركة الثاني من فبراير تدرس في كل المعاهد العسكرية والكروية كما يقولون للغلابة عن هزيمة أكتوبر.
أعلم تماما كيف يمكن ان يصل إدمان كرة القدم، فأنا كنتُ من عشاقها ولكني شُفيت بعد الثورة ولله الحمد، لم أكن فقط من مدمني كرة القدم ولم اكن فقط (أهلاوية) متعصبة بل كنت أقدم برنامجا كرويا حين كنت أعمل بالتليفزيون الحكومي قبل سفري للولايات المتحدة منذ أعوام. وازعم أن الانقلاب كان سببا لانتهاء أعراض ادمان الكرة وإعادة النظر في كل ما كنت أراه من الثوابت.
وأعلم كم سيضايق كلامي هذا الكثيرين.
وإن كانت الثورة (نتيجة سوء الإدارة) ظلت تخسر معاركها طوال الأعوام الثلاثة الماضية، فقد كانت لا تزال تواجه مؤسسات العسكر التي من الممكن حتى الآن الانتصار عليها بنوع من ترشيد إدارة معركة الوعي الإعلامي أما الآن، فقد أطلقت دولة العسكر على الثورة أقوى أسلحتها على الإطلاق.. كرة القدم.
وقد نجح الانقلاب عبر خطوات بطيئة في عزل جماهير الالتراس عن المباريات ليتمكن من تحقيق وضع تُذاع فيه المباريات وتعمل على تخدير الجماهير دون صدام كبير مع الالتراس.
وهي ملاحظة تكشف لك دور كرة القدم كأحد أخطر أذرع دولة العسكر.
وكرة القدم كسلاح أثبتت فعالية منذ بداياتها الأولى في مصر في عهد الاحتلال, وليست مصادفة أن يكون مؤسس النادي الأهلي ماسونيا ومؤسس نادي الزمالك يهوديا بلجيكيا ولم تكن أبدا مصادفة أن يبدأ أول دوري مصري وقت احتلال فلسطين سنة 1948.
ولعل شهادة المستشار وليد شرابي عن ضابط أمن الدولة الذي روى له قبل الثورة، كيف جاءتهم أوامر بالخروج للاحتفال وسط الناس بمباراة كرة القدم ثم تبعتهم الجماهير الغافلة، تكشف للبعض كيف يتم استخدام كرة القدم لتطويع وعي الجماهير في مصر وتخديرهم.
كرة القدم يا سادة هي أخطر ذراع إعلامي للعسكر على الإطلاق.
كرة القدم هي الهوية البديلة التي سوقها الاحتلال البريطاني ليختزل فيها كل معاني مقاومة المحتل.
وكرة القدم والرقص، هي السلاح السري الذي حارب به الاحتلال البريطاني حركات المقاومة في مصر والهند وزنجبار كما أشار لذلك أحد دارسي التاريخ الأمريكيين في مقال له على موقع جامعة واشنطن في 2009.
الأهلي والزمالك ليسا ناديين على وجه الدقة بل هما اكبر حزبين سياسيين في مصر كما كتب جيمس مونتاجيو في الجارديان منذ سنوات.
الانقلاب الآن يختبئ خلف متراس هائل الحجم اسمه كرة القدم، أطلقه على الثورة في محاولة للإجهاز عليها بالضربة القاضية دون أدنى تخطيط مقابل من إعلام الثورة لمواجهته.