البداية الصاخبة للرئيس الأمريكي الجديد "دونالد ترامب"، المتمثلة في قرارات مثيرة، وتصرفات غريبة في شتى المجالات، ولاسيما في العلاقات مع دول العالم، منها إيران، تضع أذهان المتابعين للشأن الأمريكي، أمام تساؤلات عديدة عن أسس إستراتيجية ترامب في سياسته الخارجية من منظور العلاقات الدولية، فمن هذا المنطلق، وفيما يتعلق بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، يبدو أن سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة تجاهها، تنبني على نظريتين معروفتين في علم العلاقات الدولية، هما:
1ـ نظرية "الرجل المجنون"
هذه النظرية، ابتدعها المنظر الأمريكي "هنري كيسنجر" مستشار الأمن القومي للرئيس "ريتشارد نيكسون"، واستخدمها في المفاوضات مع الفيتناميين أيام الحرب الأمريكية على فيتنام في ستينيات القرن الماضي، حيث كان يتقمص كيسنجر دور الناصح الأمين، عبر تحذير المفاوض الفيتنامي، أنه إذا ما فشلت المفاوضات ووصل خبر ذلك إلى نيكسون، فإنه رجل مجنون سيخرج عن الطور، ويفعل ما يريد وسيأمر بتسوية فيتنام كلها بالأرض. وكان الهدف هو إجبار المفاوض الفيتنامي على التنازل لإنجاح المباحثات وفق المعايير الأمريكية.
اليوم يعيد التاريخ الأمريكي نفسه، لكن هذه المرة لا يوجد من يمثل دور "الناصح الأمين"، وإنما يلعب دونالد ترامب بنفسه دور "ريتشارد نيكسون" و"هنري كيسنجر" في الوقت الواحد، فكونه رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية يكون في موقع نيكسون بطبيعة الحال، أما تقمصه دور كيسنجر يكون بطريقتين، يبعث من خلالهما رسالة واضحة، فحواها أنه "رجل مرعب" يجب أن يخاف منه الجميع، الأولى، عبر قرارات، وسياسات وتصرفات غريبة، وغير متوقعة، تحمل في طياتها عنصري "المفاجئة" و"التخويف"، والثانية، عبر اختياره أناساً في فريقه ينتمون إلى المدرسة اليمينية الأكثر تطرفاً، أمثال مستشاره "ستيف بانون" كبير الإستراتيجيين الذي يسميه البعض الرئيس الحقيقي للولايات المتحدة الأمريكية، ورئيس "CIA" "مايك بومبيو"، ومستشاره للأمن القومي "مايك فلين"، فطبيعة هذا الفريق المائلة إلى العسكرية، تعزز مدلولات تلك النظرية، فهنا ليس صدفة أن يختار ترامب الجنرال "جيمس مانيس" على رأس وزارة الدفاع، المعروف بـ "الكلب المسعور" (mad dog)، لتكون الرسالة التي يحاول إيصالها أكثر قوة وشدة.
2ـ نظرية اللعبة الصفرية (Zero Sum Game)
النظرية الثانية التي تتبعها الإدارة الأمريكية الجديدة في التعاطي مع إيران، هي "اللعبة الصفرية"، كما هو معروف، تعني هذه النظرية في العلاقات الدولية أن الأطراف المتصارعة هم اللاعبون، وأن الأزمة بين تلك الأطراف هي بمثابة اللعبة، بالتالي فإن السياسة التي تتبعها الدول إزاء الأزمات البينية وفق نظرية اللعبة، لها حالتان: اللعبة الصفرية، أم اللعبة غير الصفرية، ففيما يتعلق بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، يتبع اللاعب الترامبي نظرية اللعبة الصفرية، حيث يسعى إلى تصفير المكاسب التي حصل أو يمكن أن يحصل عليها اللاعب الإيراني.
وبينما يسعى ترامب لتوظيف اللعبة الصفرية مع طهران في الوقت الحاضر، كان ينتهج سلفه باراك أوباما اللعبة غير الصفرية في العلاقة معها، والتي تعني أن المكاسب التي حاول هو أن يحققها، لم تكن بالضرورة خسائر اللاعب الإيراني، وهذا ما برز في الاتفاق النووي بشكل واضح، والذي قال الرئيس روحاني أنه تحقق وفق معادلة "ربح ـ ربح".
عموما، على ما يبدو ينتهج دونالد ترامب في التعاطي مع الشأن الإيراني هاتين النظريتين في الوقت الراهن، وقد تنتهيان إلى حالة كارثية، أي الحرب التي فيها الخسارة الكلية لللاعبين. وهذا احتمال ضعيف وغير وارد حاليا، لكنه ليس مستبعدا نهائيا، مع ذلك أي حادث مفاجيء في المنطقة، مهما كان حجمه قد يتسبب بحرب بين طهران وواشنطن.
بالمجمل، ينطلق الرئيس الأمريكي من النظريتين المذكورتين للتعاطي مع الشأن الإيراني عبر إثارة أربعة ملفات أساسية:
1ـ ملف البرنامج الصاروخي
البرنامج الصاروخي البالستي الإيراني على الأغلب يمثل عنوان ملف ساخن، تثيره الإدارة الأمريكية الجديدة خلال الفترة القادمة، و يفترض أن يتم إثارة هذا الملف من حين لآخر، وخاصة إن استمرت طهران في تجاربها الصاروخية. ورغم أن الحديث الأمريكي والغربي عن التجربة الصاروخية الإيرانية في 29 يناير، جاء في سياق ما اعتبروها انتهاكاً للقرار الأممي 2231 المرتبط بالاتفاق النووي، إلا أنه على الأرجح سيكون التعاطي مع ملف "البرنامج الصاروخي" بشكل مستقل ومنفصل عن الملف النووي، وعلى هذا الأساس ستكون هذه القضية بديلاً عن الملف النووي للتركيز عليها خلال الفترة المستقبلة، ليسلك ملف الصواريخ أيضاً مسار القضية النووية، بالتالي يمكن أن تلجأ إدارة ترامب خلال المرحلة المقبلة إلى خطوات مثل تكثيف العقوبات بسبب البرنامج الصاروخي الإيراني الذي تقول طهران أنه دفاعي، كما قامت مؤخرا بفرض أولى عقوبات عليها تحت ذريعة مواجهة التجارب الصاروخية الإيرانية.
2ـ ملف الاتفاق النووي
هذا الملف أيضاَ سيكون محل تعاطي أمريكي في الإدارة الجديدة، ولكن السؤال الذي يطرح بقوة هنا، يدور حول شكل هذا التعاطي، إن كان إلغاء الاتفاق أم لا، في الإجابة على هذا السؤال، يمكن القول أنه على الأرجح لا يلجأ ترامب إلى خطوة الإلغاء، رغم تهديداته الانتخابية، وهجماته بعد الفوز والتنصيب، بل على الأغلب يستمر في تلك الهجمات الكلامية والتويترية، وقد يطالب بمراجعة الاتفاق النووي، لكن كما قلنا، يُستبعَد أن يقوم بإلغاء هذا الاتفاق، وذلك لأسباب ثلاثة:
أ: أن الولايات المتحدة الأمريكية تعرف حساسية الدول الأوروبية لهذا الاتفاق، لذلك يستبعد أن يقوم ترامب بشيء يلغي بموجبه هذا الاتفاق، وخاصة في ظل ما يعانيه الرجل من معارضة شعبية أوروبية، لذلك من شأن إلغاء الاتفاق أن تنتقل هذه المعارضة له إلى دوائر صنع القرار الأوروبية بقوة.
ب: ثم أن ترامب في ظل رفاهية الملفات، قد يكون بغنى عن هذا الملف لتحقيق ما يريده، لذلك الأفضل له متابعة أهدافه في إبراز ملفات أخرى، مثل ملف الصواريخ البالستية، الذي بدأ يبرز بشكل مثير يطغى على الملف النووي.
ج: كذلك، ومن وجهة نظر أمريكية وربما إسرائيلية وغربية، ورغم هذا الضجيح الإعلامي، على الأغلب لايزال يشكل الاتفاق النووي أفضل طريقة للتعاطي مع الملف النووي، للحد من قدرات طهران النووية، بالتالي يستبعد القيام بما يمس هذا الاتفاق، بحيث يدفع إيران نحو إعادة النظر فيه، وتخرج بموجبه تصرفاته النووية من تحت إشراف الأمم المتحدة.
عموما، بين حين لآخر سيلعب ترامب على وتر الملف النووي الإيراني والاتفاق الدولي بشأنه من خلال المطالبة بمراجعته مثلا، لتكثيف الضغوط على طهران لتحقيق مآرب دون اللجوء لشيء محدد ضد الاتفاق، لكنه سيحاول الحد من الفرص التي حصلت أو قد تحصل عليها طهران في الاتفاق النووي، من خلال فرض عقوبات جديدة تحت ذرائع مختلفة تندرج في إطار الملفات التي ستثار ضد طهران، مثل البرنامج الصاروخي، فكما أعلن ترمب مؤخرا في تغريدة أن الاتفاق النووي مكّن إيران من استعادة 150 مليار دولار، ولأنه من الصعب على ترمب إلغاء هذا الاتفاق في الوقت الحاضر، فإنه سيسعى بشتى الطرق لإبطال مفعول هذا الاتفاق من خلال تصفير الامتيازات الاقتصادية التي حصلت أو يفترض أن تحصل عليها طهران بسبب الاتفاق النووي. ومن هذا المنطلق جاء فرض العقوبات على 25 كيانا وفردا ردا على البرنامج الصاروخي الإيراني.
3ـ ملف النفوذ الإيراني الإقليمي
ثمة مؤشرات قوية، تظهر أن الإدارة الأمريكية الجديدة قد بدأت فعلياً التعاطي مع هذا الملف وفق سياسة "تقليم الأظافر"، على رأس هذه المؤشرات يأتي قضية إنشاء المناطق الآمنة في كل من سوريا، واليمن عبر تكليف البنتاغون إعداد خطة بهذا الشأن خلال تسعين يوما، والتي تأتي على رأس أهدافها مواجهة النفوذ الإيراني، كما أنه ناقش الموضوع في اتصاله مع العاهل السعودي والرئيس التركي خلال الفترة الماضية. ثم أن إرسال مدمرة أمريكية قبال باب المندب يندرج في هذا السياق.
على ما يبدو، تبدأ مواجهة هذا النفوذ في سوريا، واليمن، وكذلك قد تطال دولا أخرى مثل العراق، ولبنان، وكذلك فلسطين. وفي هذا السياق، نالت مواجهة هذا النفوذ قسطا كبيرا في "التحذير الرسمي"، وجّهه البيان الشديد الذي أصدره مستشار الأمن القومي الأمريكي حول التجربة الصاروخية البالستية في إيران، حيث تناول البيان استهداف الحوثيين لفرقاطة السعودية مؤخرا، وقال بعد هذا التحذير في البيان إن إدارة أوباما فشلت في التعامل مع "التصرفات الإيرانية المؤذية" بما فيها "نقل الأسلحة التي تدعم الإرهاب وأفعال أخرى تخرق القوانين الدولية". كما أن مايك فلين قال في السياق نفسه، أن تجربة إيران الصاروخية تهدد حلفاء إيران.
بالمجمل، النجاح الأمريكي في هذا الملف يتوقف على التعاون الروسي مع الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك، الشكل الذي ستأخذه العلاقات الأمريكية الروسية خلال المرحلة القادمة سيشكل عنصراً مهماً جداً في هذا الخصوص، فإن نجح الطرفان في طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة كما وعد ترامب، يمكننا القول أن ذلك يأتي على حساب النفوذ الإيراني الذي كما تقول مصادر أمريكية، أن التعاون الروسي للحد من هذا النفوذ يمثل أحد شروط دونالد ترامب لتحسين العلاقات مع روسيا الاتحادية.
4ـ ملف "محاربة الإرهاب"
هذا الملف يمثل أحد الملفات الرئيسة التي تستخدمه الولايات المتحدة الأمريكية منذ انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، وشهد شدا وجذبا خلال العقود الماضية، والمنطلقات الأمريكية في هذا الملف يغلب عليها الطابع الإسرائيلي، وغالبا لا علاقة لها بما يجري في المنطقة، مادام لا يمس الكيان الصهيوني، فبعد أن وضع جورج بوش الإبن، إيران ضمن محور "الشر"، تراجعت هذه المفاهيم في السياسة الأمريكية أيام باراك أوباما تجاه طهران، لكن ثمة مؤشرات قوية، تظهر أن هذا الملف سيكون رابع الملفات المهمة التي على الأغلب سيكون على جدول أعمال الإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب لمواجهة إيران، حيث أن الاتهام لإيران بأنها "الدولة الراعية للارهاب" في العالم عاد للواجهة مجددا بقوة، مما شكل ذلك جزء من التغريدات التويترية لدونالد ترامب وكذلك تصريحاته، وبعض المقربين منه في الإدارة الأمريكية.
كما أن هذا الملف دائما يكون حاضرا عند فرض العقوبات على إيران، منذ عام 1996 الذي أصدر فيه البيت الأبيض قانون "داماتو" لفرض عقوبات على إيران تحت ذريعة دعم "الإرهاب"، والمقصود هنا كان دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية، بالتالي يُفترض أن توظّف الإدارة الأمريكية الجديدة موضوع "محاربة الإرهاب" بشكل أكبر من قبل في تعاطي الشأن الإيراني، مادام أن موضوع "محاربة الإرهاب" الذي يضرب أنحاء العالم، يمثل بضاعة رائجة.
وفي هذا الإطار، تأتي مساعي الإدارة الأمريكية لإدراج الحرس الثوري الإيراني ضمن قائمة الحركات الإرهابية.
الختام
خلاصة القول أن الرئيس الأمريكي سيواصل دور "الرجل المجنون" في مواجهة إيران، تحقيقا لمكاسب للولايات المتحدة وحلفائها، وتصفيرا لما حصلت أو تحصل عليها إيران، وحلفاؤها، وبموجب ذلك قد يقوم بأعمال تخويفية وترهيبة، لكن أن تصل مستوى هذه الأعمال إلى حالة حرب مع طهران، ويطلق المجنون ترامب عنان كلبه المسعور، فيه نظر حاليا، ورغم أن ذلك وارد، لكنه مستبعد في الوقت الحاضر، مع ذلك يبقى كخيار قد يصل إليه ترامب في نهاية المطاف، وهو يرى أن تخويفاته لم تنفع مع العدو، ولاسيما أنه يحمل في ذاته مقومات الجنون.