كتاب عربي 21

ذكرياتي في يوم التنحي (2-2)

1300x600
ورد في الأثر: "الرجاء عبد واليأس حر"، وقد كان اليأس هو السبب في زحف عشرات الآلاف إلى القصر الجمهوري بمصر الجديدة، في يوم الجمعة 11 فبراير 2011، بعد أن بدا أن الاعتصام في "ميدان التحرير" فقد قدرته على حمل مبارك على التنحي!

كان هناك من ذهبوا في حشود سيراً على الأقدام، بينما ذهبت مع زميل بجريدة "الأهرام" بـ"تاكسي" وهناك وجدت الآلاف قد سبقونا!

وعلى "طريقة خالتي عندكم"، كان البعض يسأل الحرس وربما ضباط الجيش: "مبارك بالداخل"؟، فيكون الرد: ليس موجوداً، وكنا نصدقهم. هبطت طائرتان داخل القصر وغادرتا إلى حيث لا نعلم.

سألتني زميلة: 

ألا تلاحظ شيئاً غريباً هنا؟.. لا أحد في هذه البنايات حاول أن يفتح النافذة ولو من باب أن يتفرج علينا؟ 

وحاولت أن أخفف من شعورها بأننا أقلية لا تمثل الشعب، وأجبتها:

- ربما تكون مكاتب وأماكن عمل وليست شققاً سكنية، واليوم الجمعة عطلة رسمية، فضلا عن أننا في فترة فرض حظر التجوال، ومن الطبيعي ألا يكون في هذه المكاتب أحداً.
-
فعادت لتقول في أسى: 

- بل هي شقق سكنية، ومنذ الصباح لا أحد فتح نافذة، أو أرسل زجاجة مياه للمعتصمين!
-
ولم يكن عندي رغبة في الجدل فسكت، وتذكرت في يوم 28 يناير، كيف أن فقراء منطقة وسط البلد، من النساء، كانوا يدا حانية علينا، حملوا لنا الخل، والبصل، ومن يقع في معركة الكر والفر كانوا يحملونه لداخل البيانات ليقمن باسعافه. ومصر الجديدة سكانها هم أبناء الطبقة الراقية نسبياً.

بعد قليل تعرضنا لموقف آخر، جاء ليعزز من وجهة نظر هذه الزميلة، فقد احتاجت لدخول "الحمام"، ورفض من قابلتهم من سكان هذه البنايات استقبالها، وكانت تتسول منهم الدخول فلم ترق قلوبهم، ليس موقفاَ ضدنا ولكن خوفاً من أن يضعوا أنفسهم في مشاكل أمنية بسبب التعامل مع أمثالنا من "المطاريد"، لكن سيدة كانت تسير في المنطقة، أشارت لبناية وقالت هناك قولي للحارس، أنك من طرف "أم فلان" تقصد نفسها، وسيسمح لك بالدخول!

زميلي الصحفي بـ "الأهرام" كان في يده جهاز راديو، كان يقلب في محطاته، وإذا فجأة، وصلنا صوت عمرو سليمان، وهو يتحدث عن التخلي عن الحكم، ولم ينتظر بعد ذلك  شيئاً، وهتف وهتفت، ليلتقط المتظاهرون هتافاتنا فيهتفون معناً.

وبعد ثوان، ذهبت السكرة وحلت الفكرة، طلبت من زميلي أن يتصل بزوجته ليسألها إن كانت استمعت لبقية البيان، فأنا لا أصدق أن مبارك يمكن أن يتنحي، فمن المؤكد أنه يناور، وقد يكون بيانه أنه قرر التنحي لكن أنصاره رفضوا، أو عمل حساباً لمشاعرهم النبيلة، أو أي شيء من هذا القبيل!

كان مبارك يقول أنه حاصل على الدكتوراه في العناد، وكنا نؤمن بهذا، وهو استخدم معنا أسلوب المناورة، وهى طريقة كانت سبباً أيضاً في عناد المتظاهرين!

قلت لزميلي، لو تبين أن التنحي ليس صحيحاً، فإن كل هؤلاء الذين يحتفلون بعد أن هتفنا، سيعتدون علينا، وفي جو المؤامرات المصاحب لأي عمل ثوري أو سياسي، سنتهم بأننا ضللناهم مع سبق الإصرار والترصد!

حاول زميلي الاتصال بزوجته، لكن من الواضح أن شبكة الاتصالات سقطت ولم تتحمل آلاف الاتصالات، المهنئة والمستفسرة، فمصر كلها كانت في فرح، ونوافذ البنايات المحيطة بنا فتحت، والسكان يكادون يلقون أنفسهم منها فرحين بما حدث، ويلوحون لنا بالتحية وعلامات النصر!

اختفى زميلي وبحثت عنه وسط الطوفان البشري فلم أجده وكان لابد من العودة إلى "ميدان التحرير"، بيتنا طوال الأيام الماضية!

كان الشارع قد امتلأ بالسيارات الملاكي، ولا وجود لتاكس لكي ينقلني إلى الميدان!

سيارة واحدة، كانت تمرق كالبرق، فلم تكن تحتفل، ففيها بجانب الشاب الذي يقودها فتاة، وقد أنزلت الزجاج وكانت في هستيريا، وهي تسبنا جميعاً، وتتهمنا بالعمالة، ويبدو أن الشاب فشل في إسكاتها فخشي عليها من الاعتداء، فكان يقودها في سرعة!

لم يغضبن الفتاة، التي كانت نشازاً في هذا الجو الاحتفالي، هل أقول أنني احترمتها أكثر من أصحاب البنايات الذين فتحوها الآن للاحتفال؟.. وأكثر من الذين خرجوا للاحتفال بعد أن تأكدوا أن مبارك قد تنحى فعلا؟!

واحد من هؤلاء وقف لي بسيارته مشكوراً، فهو ذاهب للتحرير، في لحظة كان "التحرير" هو قبلة كل من خرجوا يحتفلون بهذا الخبر السعيد!

كان رجلاً وزوجته، لم نتحدث، فقد كانت الزوجة مشغولة بالحديث مع والدتها عبر الهاتف وتزف لها بشرى أن مبارك قد تنحي وأنها وزوجها نزلوا للتحرير للاحتفال وتركوا "الصغار" في المنزل!

كنت سعيداً ولا شك؛ سعادة لا توصف، لكن طوال الطريق وقد بدا لي "التحرير" بعيداً جداً بسبب حشود السيارات، وأنه في "سوهاج"، وكان حديثي مع نفسي:

سعداء برحيل مبارك؟.. لماذا لم تخبرونا بذلك من قبل؟.. لماذا أشعرتمونا أننا وحدنا ضد مبارك؟.. لماذا لم تحاولوا حتى أن ترسلوا لنا إشارات بأن الشعب كله معنا؟.. وأنكم لا تصدقون دعاية الإعلام الرسمي بأننا ممولون من الخارج.. ومنكم من كان يردد هذه الدعاية التي تقول أننا نذهب إلى التحرير لنتقاضى خمسين دولاراً عن كل يوم؟!

أسئلة كانت تدور في رأسي طيلة وأنا أنظر إلى طوفان المحتفلين في الشوارع، وهذا المشهد بعد الانقلاب لم يجعلني أتوقف من ردة فعل البعض بإعلان الانحياز للعسكر في انقلابهم، والبعض منا ذهب به الخوف من أنه إذا أسقط الانقلاب فلن يمكنه أن يواجه هؤلاء.. وكان رأيي أنها أزمة من يتماهون مع القوة، فهؤلاء لن ينحازوا للانقلاب إذا سقط!

لم نتمكن بسبب الزحام من الوصول بالسيارة إلى "التحرير"، لقد وقف من استضافني في سيارته على جانب كوبري السادس من أكتوبر، بعد منطقة الإسعاف، وترجلنا إلى هناك، وكانت منطقة وسط البلد كلها ميدان احتفال.

كنت أسير في "ميدان التحرير"، وهو ممتلئ بالبشر، فأقف على معنى طلب الإمام في صلاة الجماعة: ألينوا لإخوانكم"، لكن في هذه الليلة، وجدت صبياً يدفعني وهو يجري في الميدان، فأيقنت أنه مزدحم بمن لم يشاركوا ولو لساعة في الثورة!

لقد سبقنا للميدان، أناس أعرفهم عز المعرفة، أحدهم أخذ يضرب رأسهم أمامي ذات مرة في الحائط، وهو يقول: "يا جماعة مبارك أبونا لا يجوز أن نهينه في هذا السن"، وقلت له مبارك هذا لص وقاتل ومجرم، وهو إن كان أبا لك فليس أبا لنا!

وشاهدت من جاء وأسرته محتفلاً وكان يوسط أقربائي حتى نتوقف عن الثورة، وكأنني كنت قائداً من قوادهاً!

المعنى، أنه في هذا الجو الاحتفالي، لم يكن من المنطق أن يقول أحد أن الثورة لم تنته، ويرفض فكرة التخلي عن الحكم لصالح المجلس العسكري، فما هو البديل؟!

وبعيداً عن غزاة الميدان من غير الثوار، والذين غزوا الشوارع كلها، فإذا عدنا للثوار، فما الذي كان يمكن أن يجعلهم يرفضون ما حدث؟!

إن الثورة المصرية، لم يكن لها قائد، حتى يستلم الحكم، والمصريون كانوا عاطفيين في نظرتهم للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، فكانوا لا ينظرون إليه على أنه معين بالنفر من قبل مبارك. وهى العاطفة التي امتدت لتشمل عمر سلمان مدير المخابرات العامة، ولهذا فإن مبارك عينه نائباً له، للسمعة الطيبة للرجل غير المبنية على أساس حقيقي!

بعد تعيين عمر سليمان نائباً لرئيس الجمهورية، دار حديث بيننا وأحد رجاله في التحرير وكان ينتحل صفة ثوري، وكنا نتعرف عليهم بسهولة، فأي ثوري هذا الذي يقضى أكثر من خمسة عشر ساعة في الميادين، يجلس على الأرض، ومع هذا يأتي ببدلة، كاملة، وقميص أبيض، وربطة عنق؟!

قال: الحمد لله، لقد نجحنا وحققت الثورة أهدافها؟
وقلت له: وما هى أهدافها التي حققتها؟!
فقال: ألم نكن نحلم من قبل أن يكون عمر سليمان نائباً لرئيس الجمهورية؟
وقلت: له أنت حلمت، لكن أنا لم أحلم!
وقال: وقال هل تشكك في وطنية "سيادة اللواء عمر سليمان"!

وقلت له: هل يمكن أن تتحفني بمواقفه الوطنية، غير أن له أربع سنوات ليست له سوى مهمة وطنية واحدة، هى عودة الجندي الإسرائيلي المختطف "شاليط" إلى الأحضان الدافئة لوالدته؟.. فهو يتقاضى راتبه من مصر ويعمل لصالح والدة "شاليط"؟!

سكت، وسكت!
ومع هذا لا أنكر، أنني كنت وأنا أرى مبارك يحدث أضراراً فادحة بالأمن القومي المصري، ينتابني يقين، أن هناك أجهزة في الدولة المصرية ستتدخل في ساعة الجد لتقول: كفى!

خلطنا بين الجيش والمجلس العسكري، فاحتكاكنا الدائم في الشوارع كان مع الشرطة فمن أين يأتينا الإحساس بأن العسكر يمكن أن يكونوا أيضاً خطر على الثورة، وإذا كانت لهم مواقف تؤكد انحيازهم لمبارك ضدها، فقد أجبرت الثورة مبارك على التنحي، وأبدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة انحيازه للثورة، وهو يلقي بيانه الأول يعطي التحية لشهداء الثورة!

هذا فضلاً عن أنه تقرر للمرحلة الانتقالية ستة أشهر فقط، بعدها يصبح للشعب أن يختار من يحكمه في انتخابات نزيهة!

وبالإضافة إلى هذا فقد كنا كثوار يأسنا من القدرة على حمل مبارك على التنحي، وقد ذهبنا للقصر الجمهوري مدفوعين باليأس، والملاحظ أننا لم ننتظر من بيان عمر سليمان أكثر من أن نعرف أن مبارك قد تنحى لنحتفل، وبدا لا يعنينا لمن سلم الحكم من بعده في هذه المرحلة الانتقالية!

فعلينا أن نتوقف عن جلد الذات كلما حلت ذكرى التنحي، فخيانة كافة الأطراف للثورة، لم تكن بمغادرة الميدان بعد التنحي، ولكن في خلافاتهم بعد ذلك، واستقواء كل فيصل بالفلول والعسكر في مواجهة الفصيل الثوري الآخر، حتى بعد أن تبين أن المجلس العسكري كان يمثل الثورة المضادة!

إن الانقلاب العسكري كان مرحلة تحتاجها الثورة، ويحتاجها الشعب المصري كله، ليعرف أن حكم العسكر فيه سم قاتل!

فتوقفوا عن اللطم يرحمكم الله.