بعد زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى كل من سلطنة عمان والكويت منتصف شهر شباط، والتي أعقبت الرسالة التي حملها وزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح خالد الصباح من طرف دول مجلس التعاون الخليجي خلال زيارته إلى طهران في 25 يناير 2017، فتحت أبواب التحليلات على مصراعيها حول احتمالات التسوية بين إيران والدول العربية الخليجية وعلى رأسها السعودية، حيث أن الأزمة أساسا هي بين طهران والرياض.
وسبق هذا الحراك، حصول توافق بين البلدين حول ملفين مهمين، هما ملف الرئاسة اللبنانية، وملف النفط، مما اعتبرهما المراقبون مؤشرين إيجابيين على إمكانية توصل الطرفان إلى تسوية بينية، تنهي الأزمة الراهنة في العلاقات.
السؤال البارز اليوم هو حول إمكانية حدوث تسوية بين طهران والرياض في ظل ما يمكن أن نسميه حراك سياسي في هذا الاتجاه، في الرد على هذا السؤال يلزم القول أن أي حراك مادام لا يمس جوهر المشكلة والأزمة، لا يمكن أن ينتهي إلى تسوية حقيقية، وملامسة ظواهر الأزمة دون البحث عن حلول لجذورها قد يؤدي إلى تهدئة أو تسوية مؤقتة، لكن هذا لا يحل المشكلة من الأساس، ويبقى الباب مفتوحا أمام عودة التوتر والأزمات.
في تناول الأزمة القديمة المتجددة بين السعودية وإيران، نجد أن لها جذورا وظواهرا، ويخلط المحللون والمراقبون كثيرا بين الأمرين، حيث ينظرون إلى الخلاف الحاد في وجهات النظر والمواقف في الملفات الإقليمية، على رأسها ثلاثة ملفات أساسية راهنة، الملف السوري، والملف اليمني، والملف العراقي كأسباب الأزمة الحاصلة بين الدولتين، بينما هذا ليس دقيقا، وإنما هذه الملفات تمثل ظواهر الأزمة بينهما، وهي ظواهر حديثة، بينما الجذور والأسباب قديمة، تعود إلى قبل أربعة عقود تقريبا، عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران بقيادة آية الله روح الله الخميني عام 1979.
أما ما الذي حدث بعد انتصار الثورة في إيران؟ والذي أسّس لمرحلة طغت عليها حالة توتر ما عدى فترات وجيزة. الإجابة الموضوعية على هذا التساؤل تقودنا إلى أساس الأزمة بينهما.
كما يقول تاريخ العلاقة البينية، فإنها في أيام الشاه الإيراني كانت طيبة ووطيدة، وهذا بالرغم من أن دولة إيران الملكية كانت شرطي المنطقة، ولها اليد العليا فيها، مع ذلك لم تشكل الأزمات سمة للعلاقة، والدول الخليجية وعلى رأسها السعودية لم تكن تنظر إلى إيران كعدو. اليوم بينما إيران الثورة ليست إيران الشاه، وليست شرطي المنطقة، التوتر يشكل السمة البارزة في العلاقة، ولكن لماذا؟ في الإجابة نقول أنه قبل الثورة كانت هناك قوة دولية عظمى متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية، تمثل الجهة الناظمة للعلاقات بين إيران والسعودية في المنطقة، بحكم علاقة التحالف مع الدولتين، وهذا حال دون وقوع توتر أو أزمة بينهما خلال الحكم الملكي في إيران.
لكن الذي حصل بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، أن هذه القوة الدولية الناظمة للعلاقات بين الطرفين، فقدت علاقة التحالف مع أحدهما وهو إيران، بينما ظلت السعودية على علاقة التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية.
هنا جاء الخلل الذي أدخل علاقات البلدين في توتر مستمر منذ عام 1979، والمستعر حاليا، فخروج إيران من سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالأحرى من معايير المنظومة الدولية المتأمركة، مكنّها من العمل باستقلالية وحرية خارج هذه المنظومة لصالح مشروعها وأهدافها، مما وفّر لها ذلك بشكل تدريجي النفوذ الواسع الذي تحظى به طهران في المنطقة وخارجها اليوم، والذي وصل إلي حالة تنظر إليها قوى إقليمية كتهديد لها، حيث عندما استيقظت السعودية الأسيرة للمنظومة الدولية الأمريكية، وجدت أن إيران وصلت إلى خاصرتها الجنوبية (اليمن).
وفي مقابل هذا التمرد الإيراني على المنظومة الأمريكية الناظمة للعلاقات الإقليمية، ظلت السعودية ودول أخرى مرتبطة بهذه المنظومة، وبشكل أكثر من قبل، مما أفقدها ذلك الفرص التي حصلت عليها إيران بفضل هذا التمرد. ومن هذا المنطلق، شئنا أم أبينا، إيران أصبحت الدولة الوحيدة في المنطقة، التي تتخذ قراراتها في عاصمتها، لذلك عندما تقرر أن تتواجد عسكريا هنا وهناك، تقرر ذلك في عاصمتها دون مراجعة القوى الدولية، وهذه هي ميزة السياسة الإيرانية وعنصر قوة لها، بينما أن دول أخرى كتركيا والسعودية لا تتمتع بهذه الميزة، فعندما تريد اتخاذ قرار مهم، لابد لها من التنسيق مع شركائها الدوليين، ولاسيما الأمريكان، وأخذ موافقهتم، فعلى سبيل المثال، نرى أن تركيا العضو في الناتو لا تستطيع التدخل العسكري في جارتها السورية، إلا بعد تفاهمات وتنسيق مع قوى دولية، بينما طهران دون تشاور مع أحد فعل ذلك، وسوريا ليست جارتها، وهذا يعني أنه بقدر ما تمثّل عضوية تركيا في الناتو وعلاقاتها مع الغرب، قوة لها، تكون كابح لها في الوقت نفسه، والجمهورية الإسلامية الإيرانية متحررة من هذه الكوابح والعراقيل، مما أعطاها فرص لا تتوفر لغيرها من الدول.
الخلل الذي حصل بعد انقطاع علاقة الطرف الإيراني بالناظم الأمريكي أدى إلى تعاظم دور مفهوم "المعضلة الأمنية" (The Security Dilemma) في العلاقات بين دول المنطقة. و"المعضلة الأمنية"، هي الحالة التي تحكم العلاقات بين دولتين أو أكثر بسبب اهتماماتهم الأمنية، والدافع الأساسي هنا هو شعور الدول باللاأمن تجاه الأخرى، وهو ما يؤدي إلى تصاعد التوتر.
خروج إيران الجديدة عن التحالف مع الناظم الأمريكي، وطبيعة الحكم الثوري في إيران، إلى جانب عوامل أخرى، اعتبرتها السعودية تهديدات ومخاطر أمنية لها، والتي وجدت أن أفضل طريقة لمواجهة هذا المستجد، يتمثل في مزيد من الاعتماد على العنصر الأمريكي في الاهتمامات الأمنية، وتعزيز أواصر التحالف مع واشنطن، وتقوية ترسانتها العسكرية، ورفع هائل في موازنتها العسكرية حيث أنها الرابع في العالم.
كما أن إيران بعد الثورة، والتي توصف الولايات المتحدة الأمريكية في خانة الأعداء، رأت في رسوخ التحالفات الإقليمية مع واشنطن، وكذلك الاعتماد عليها في الاهتمامات الأمنية، بمثابة تهديدات ومخاطر أمنية لها ولسياساتها الإقليمية، مما زاد ذلك بمرور الوقت من تصميم إيران في تعزيز قدراتها العسكرية بالاعتماد على الإمكانيات المحلية بعد فرض العقوبات عليها، وكذلك تعزيز النفوذ الذي أعجبنا أو لم يعجبنا، قد جلب لها أوراق قوة لا تتوفر لغيرها في كثير من الأحيان.
كما أن السعودية في إطار اهتماماتها الأمنية في مواجهة إيران، بدأت منذ سنوات قريبة إلى فتح قنوات اتصال مع الكيان الصهيوني، وخلال السنة الأخيرة خطت العلاقات بينها وبين هذا الكيان خطوات كبيرة في اتجاه تشكيل جبهة عربية إسرائيلية ضد إيران وحلفائها.
بعد هذه السردية، ثمة عوامل تعزز القناعة بعدم حصول انفراجة في العلاقات الإيرانية السعودية على الأقل خلال المرحلة القريبة المقبلة، نستعرض فيما يلي أهم تلك العوامل:
1ـ جذور الأزمات في المنطقة الخليجية تعود إلى انعدام مفهوم مشترك للأمن الإقليمي منذ أكثر من قرن، حيث تم ربط هذا المفهوم بمحددات خارجية، بل إخضاعه لها، وعلى رأس هذه المحددات هو المحدد الأمريكي، فما دام ليس هناك تصور مشترك لمفهوم الأمن الإقليمي، لا يمكن أن نصل إلى حلول جذرية للأزمات البينية في العلاقات بين هذه الدول، ولاسيما الأزمة الراهنة بين إيران والسعودية، فالرهان على الأمن المستورَد من الخارج لا يحقق أمنا منشودا للمنطقة وشعوبها، ولن يخلق التوازن في العلاقات على المدى البعيد، وهو عنصر يهدد حاضر ومستقبل المنطقة الخليجية برمتها، ولن يجلب الأمن والأمان.
2ـ الأولوية في المنطقة اليوم، هي لتطبيع العلاقات العربية ولاسيما الخليجية مع "إسرائيل"، وهذا يتعارض مع تطبيع العلاقات مع طهران، لذلك من شأن دخول العامل الإسرائيلي في رسم الأولويات الإقليمية، أن يقزم فرص حصول انفراجات في الملفات التي تشكل إيران طرفا فيها.
3ـ جلوس دونالد ترامب على المكتب البيضاوي في الولايات المتحدة الأمريكية لا يشجع بلورة مسار ينتهي إلى حلحلة الأزمات الإقليمية، ولاسيما الأزمة الخليجية الإيرانية، بل على العكس يقزم مجيئه فرص هذه الحلحلة.
خلاصة القول أن الحراك الكويتي والعماني الأخير جاء في سياق العلاقات الثنائية وليس في سياق العلاقات متعددة الأطراف، إلا أنه يجب أن لا نغفل أنه جاء بدافع الخوف والقلق من حالة تصعيد التوتر بين طهران والرياض، واحتمالية وصول مستواه إلى حالة صعبة تأخذ طابع الحرب مستقبلا، وهذا بالدرجة الأولى يمثل تهديدا مصيريا للجميع، كما أن إيران أيضا تشاطر الدولتين الجارتين هذا القلق في هذه المرحلة، لذلك نرى سرعة تجاوبها مع الرسالة التي نقلها وزير الخارجية الكويتي من خلال الزيارة الخليجية التي قام بها الرئيس روحاني، أما فيما يتعلق بالسعودية التي على ما يبدو أعطت الضوء الأخضر للتحرك الكويتي لأسباب محددة، لكنها لا تبدو متشجعة للبدء بحوار سياسي مع إيران في ظل وجود رئيس أمريكي متشدد يخطو خطوات تصعيدية تجاه طهران، مما قد يحقق لها ما عجزت عنه إدارة باراك أوباما.