كتاب عربي 21

عن إعلام كل حكومة

1300x600
الصحف أهم سجل للتاريخ، لأنها ترصد الأحداث والأفعال والأقوال يوما بعد يوم، وعلِمَتْ البشرية ما علِمَتْ عن التاريخ القديم من مدونات المثقفين الأقدمين، وشيئا فشيئا صرنا نميز بين الوقائع "الصادقة" والتخاريف في التاريخ القديم، وسيأتي يوم يدرك فيه كتاب ودارسو التاريخ، أن معظم ما سجلته الصحف العربية من وقائع كذب وإفك، لأنه تمجيد للسلاطين والفراعين الجدد، وحتى كتب التاريخ العربي المعاصر كتب معظمها مؤرخو السلاطين.

لنأخذ مصر نموذجا، باعتبار أنها البلد الرائد في مجال الصحافة في المنطقة العربية، وتقرأ كل ما صدر مكتوبا عن فترة حكم عبد الناصر في مصر، وتستنتج أنه كان العصر الذهبي لمصر والعرب، ولكنك تقرأ ما كتب عن عصر خليفته أنور السادات، فتفاجأ بأنه قضى سنوات حكمه في تصحيح أخطاء عبد الناصر، ولما مات السادات، وجاء حسني مبارك (بما اعتبره هو "من محاسن الصدف") إلى كرسي الرئاسة، أشادت صحف العرب بحنكته التي استدرك بها أخطاء السادات، وأعاد اللحمة لعلاقة مصر بجيرانها العرب.

وطار مبارك من الكرسي إلى قفص في محكمة، وهو يقول بكل استكانة وخضوع للقاضي عندما نادى عليه "أفندم"، وهاصت الأمور وجاطت، بسبب عدم تكافؤ الفرص في لعبة الكراسي، التي جلس عليها بعض النكرات، ثم انزووا، ثم جرت انتخابات وفاز فيها الإخوان المسلمين، وشكلوا حكومة، أوكلوا أمر وزارة الدفاع فيها لعبد الفتاح السيسي، الذي انقلب على من جعله وزيرا، وعلى من أسقطوا حكم حسني مبارك، وحظي السيسي خلال أقل من ثلاث سنوات بتطبيل لم يحظ به حكام مصر مجتمعين منذ عهد حتشبسوت، وكان قارعو الطبول والراقصون من الإعلاميين، رافعي شعار "اللي يتجوز أمي، أقول له يا عمي"، وحسبوا أن الحظ حالفهم بتحالف حكومة السيسي مع قباطنة النظام المباركي الحسناوي، لتسقط عنهم تهمة أنهم طبلوا وزمروا لمبارك، وجعلوا منه الفرعون (الملك الإله).

والنفاق الإعلامي العربي عابر للحدود، ولو توقفنا عند القضية القومية (فلسطين)، فإن القائد التاريخي لمنظمة التحرير الفلسطينية – ياسر عرفات، كان منزها عن الخطأ، ولا ينتقده إلا قادة المنظمات الفلسطينية المنافسة لفتح (الجبهتان الشعبية والديمقراطية، وجماعتا جبريل وأبو نضال، وكانت الأخيرتان تنبحان في عرفات وغيره بأمر من بيده العصمة في دمشق وبغداد على التوالي)، حتى الحركة الإسلامية الفلسطينية كانت تنتقد عرفات على خفيف، ربما بمنطق حنانيك بعض الشر أهون من بعض.

وما أن توفي عرفات حتى تم دفن جميع أخطائه معه، وصار بطلا لم يأته الباطل لا من أمامه، ولا من خلفه، ولم يعد هناك من يتحدث عن فداحة الثمن الذي كبده للفلسطينيين في الأردن، وبإقامة جمهورية الفكهاني في لبنان، والزج بالفلسطينيين في أتون حرب أهلية، لم تكن لهم بها ناقة أو حصان، ثم تم نبش أخطاء عرفات، وتعليقها على رقبة محمود عباس أبو مازن، مع أن كل ما فعله وما زال يفعله أبو مازن، هو السير على الطريق الذي رسمه عرفات في أوسلو ومدريد، فقد صار عرفات "معصوما" – استغفر الله – والمساس باسمه حتى في سياق تناول قضيته (فلسطين) التي تعتبر عامة، صار يوصم بالهرطقة.

والتونسيون احترموا بطل الاستقلال الحبيب بورقيبة حينا من الدهر، ولما أطال المكوث في قصر الرئاسة حتى بعد أن "تزهمر"، لعنوا خاشه، ثم جاء شين الهاربين بن علي، ومن بعده عدة كوكتيلات حكومية، فكثر البكاء على أطلال العصر البورقيبي (يحمد للتونسيين، أنه لم ترتفع أصوات حتى الآن تترحم على عهد بن علي، رغم جلاميد الصخر التي تحطها سيول السياسة عليهم من عَلٍ).

أعود إلى لب موضوعي، وهو أن الصحافة الورقية والمسموعة والمرئية في العالم العربي، وفي ظل أنظمة قمعية منتشرة وبائيا ما بين الخليج والمحيط، تتفادى قول الحق ولا شيء غير الحق، ومن ثم صارت هناك أعمدة صحفية مفروشة تعود على صاحبها بـ"إيجار" مجزٍ، وبرامج إذاعية وتلفزيونية بالطن المتري، غايتها مسح الأجواخ والتهليل للبهاليل الجهاليل، وسيأتي بعد عقود يوم يحاول فيه المؤرخون دراسة أحوال هذا البلد العربي أو ذاك، بالرجوع إلى الصحف والمجلات، بوصفها السجلات اليومية والأسبوعية والشهرية للأحداث المهمة، فيصابون بالصداع النصفي، عندما يجدون أن النصف الأول من سجل الزعيم الفلاني ناصع البياض، بينما سجله بعد رحيله عن الدنيا، أزفت من الزفت، (أو العكس) فيعجبون كيف استحال البياض إلى سواد، وكيف تتحول الإنجازات إلى إخفاقات (أو العكس).