قبل أكثر من أربعين عاماً، انتقلت الوالدة (حفظها الله) للعيش في لبنان، بعدما شاءَ القدرُ أن تقترن، هي السورية - الدمشقية بوالدي (حفظه الله هو الآخر).
في واقع الأمر، لا يتحدث المقالُ عن لقاء وتعارف الوالد والوالدة، ولا يتحدث كذلك عن ظروف ارتباطهما المعقدة نسبياً، وإنما كان لا بد من هذ المقدمة "العائلية" الخاصة جداً، والبسيطة جداً، تمهيداً لنقل ولو النزر اليسير من مجلدات الخوف "الخرافي" الذي سَكَنَ قلوب "أحفاد الأمويين" على مدار العقود الطويلة الماضية.
أقول سَكَن لأنه ما عاد يفعل اليوم، وهم الذين كسروا "متأخرين" جدارا سميكا وغليظا من جدران الطغيان، الذي لم تعرفه بلادٌ قط، على الأقل في تاريخنا الحديث والمعاصر.
مع سنوات الطفولة الأولى، ألفت عيناي كما ملايين اللبنانيين، صور الضباط والجنود السوريين المبعثرين على الحواجز، المنتشرة بدورها كحبات الفطر السام على مساحة البلد أو البُليد (تصغير بلد) المثخن بالويلات، والغارق بدماء أبنائه، ودماء بعضٍ من "أشقائه".
كان هؤلاء (الضباط والجنود) يأكلون أو بالأصح "ينهشون" آخر ما بقي من مفهوم الدولة بشكلها الخارجي، بعيدا بالطبع عن مضمونها وجوهرها وشكلها الداخلي، الذي كان ثمة بالفعل من "نهشه" من قبلهم، ومن بعدهم، وبالتواطؤ معهم.
كلما كنتُ أكبر يوما، كنت أرى حبات الخوف تكبر، وتتضخم أكثر وأكثر في قلب وعيون أمي.
كانت "المسكينة" تمنّي النفس بالابتعاد عن هذا الخوف بقدر ما ابتعدت من كيلومترات عن دمشق، ولكنها عبثاً حاولت، فبيروت وأخواتها من المدن والمحافظات اللبنانية الأخرى، التحقوا - بالتزامن مع عقد قرانها - مرغمين بدمشق وأخواتها من المدن والمحافظات السورية الأخرى. باتوا جميعا في عهدة مجرم وطاغية وقاتل وسفّاح وجلّاد واحد.
المجرم والطاغية والقاتل والسفّاح والجلّاد، الذي قال يوما "شعبٌ واحدٌ في بلدين". ذاك ما قاله وأعلنه، لكن ما كان يضمره ويريده هو فعل استلاحق اللبنانيين بالسوريين وإدخالهم سوية حظيرة "قائدنا إلى الأبد".
بين الفينة والأخرى، كان الصبي المشاغب والمشاكس (كاتب السطور) يتمتم ويتساءل "لماذا يُرفع العلم السوري في لبنان؟! ولماذا تُرفع صور حافظ، ومن بعده بشار الأسد في لبنان؟! لماذا تُوجد دبابات وآليات عسكرية وسيارات مخابراتية سورية في لبنان؟! ولماذا هناك حاجزان يحاصران برالياس (مدينتي) من شرقها وغربها؟! كان جوابها الحاضر والوحيد دوما برضاي عليك يا حمودة (بلكنتها الدمشقية التي أُحِب وأعشق) لا بقى تحكي أو تسأل عن السوريين. برضاي عليك يا أمي... سكوت".
روتْ مرات ومرات، ودائما "همسا" وهمسا فقط لا غير، ولأفراد العائلة حصرا، الكثير الكثير من مشاهداتها في الحي، والشارع، والمدرسة.
روتْ كيف قُتِل هذا، وكيف عُذِّب ذاك، وكيف اختفت تلك، وكيف سُجن هؤلاء، وكيف ذُبح أولئك، وكيف وكيف إلى ما شاء الله... من ذكريات وأخبار "سوداء" ما فارقت مخيلتها يوماً.
حتى بعد خروج الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان/أبريل 2005، بقيت أطال الله في عمرها تردد عبارة، تأخرتُ كثيراً حتى أفهم دلالتها ورمزيتها "لا تحكي، لا تحكي يا ابني ... الحيطان إلها آدان (آذان)".
ما فعلته الوالدة كان لا شك جزءا بسيطا وصغيرا جدا جدا من فعل الخوف اللامعقول، الذي كان يسكن أفئدة وأرواح السوريين حصرا، ولكنه ما عاد يفعل.
بعد الخامس عشر من آذار/مارس 2011، ثمة أشياء كثيرة قد تغيّرت، ليس أقلها أن أمي لم تعد تهمس... ولَم تعد تقول لي... "سكوت".
في واقع الأمر، لا يتحدث المقالُ عن لقاء وتعارف الوالد والوالدة، ولا يتحدث كذلك عن ظروف ارتباطهما المعقدة نسبياً، وإنما كان لا بد من هذ المقدمة "العائلية" الخاصة جداً، والبسيطة جداً، تمهيداً لنقل ولو النزر اليسير من مجلدات الخوف "الخرافي" الذي سَكَنَ قلوب "أحفاد الأمويين" على مدار العقود الطويلة الماضية.
أقول سَكَن لأنه ما عاد يفعل اليوم، وهم الذين كسروا "متأخرين" جدارا سميكا وغليظا من جدران الطغيان، الذي لم تعرفه بلادٌ قط، على الأقل في تاريخنا الحديث والمعاصر.
مع سنوات الطفولة الأولى، ألفت عيناي كما ملايين اللبنانيين، صور الضباط والجنود السوريين المبعثرين على الحواجز، المنتشرة بدورها كحبات الفطر السام على مساحة البلد أو البُليد (تصغير بلد) المثخن بالويلات، والغارق بدماء أبنائه، ودماء بعضٍ من "أشقائه".
كان هؤلاء (الضباط والجنود) يأكلون أو بالأصح "ينهشون" آخر ما بقي من مفهوم الدولة بشكلها الخارجي، بعيدا بالطبع عن مضمونها وجوهرها وشكلها الداخلي، الذي كان ثمة بالفعل من "نهشه" من قبلهم، ومن بعدهم، وبالتواطؤ معهم.
كلما كنتُ أكبر يوما، كنت أرى حبات الخوف تكبر، وتتضخم أكثر وأكثر في قلب وعيون أمي.
كانت "المسكينة" تمنّي النفس بالابتعاد عن هذا الخوف بقدر ما ابتعدت من كيلومترات عن دمشق، ولكنها عبثاً حاولت، فبيروت وأخواتها من المدن والمحافظات اللبنانية الأخرى، التحقوا - بالتزامن مع عقد قرانها - مرغمين بدمشق وأخواتها من المدن والمحافظات السورية الأخرى. باتوا جميعا في عهدة مجرم وطاغية وقاتل وسفّاح وجلّاد واحد.
المجرم والطاغية والقاتل والسفّاح والجلّاد، الذي قال يوما "شعبٌ واحدٌ في بلدين". ذاك ما قاله وأعلنه، لكن ما كان يضمره ويريده هو فعل استلاحق اللبنانيين بالسوريين وإدخالهم سوية حظيرة "قائدنا إلى الأبد".
بين الفينة والأخرى، كان الصبي المشاغب والمشاكس (كاتب السطور) يتمتم ويتساءل "لماذا يُرفع العلم السوري في لبنان؟! ولماذا تُرفع صور حافظ، ومن بعده بشار الأسد في لبنان؟! لماذا تُوجد دبابات وآليات عسكرية وسيارات مخابراتية سورية في لبنان؟! ولماذا هناك حاجزان يحاصران برالياس (مدينتي) من شرقها وغربها؟! كان جوابها الحاضر والوحيد دوما برضاي عليك يا حمودة (بلكنتها الدمشقية التي أُحِب وأعشق) لا بقى تحكي أو تسأل عن السوريين. برضاي عليك يا أمي... سكوت".
روتْ مرات ومرات، ودائما "همسا" وهمسا فقط لا غير، ولأفراد العائلة حصرا، الكثير الكثير من مشاهداتها في الحي، والشارع، والمدرسة.
روتْ كيف قُتِل هذا، وكيف عُذِّب ذاك، وكيف اختفت تلك، وكيف سُجن هؤلاء، وكيف ذُبح أولئك، وكيف وكيف إلى ما شاء الله... من ذكريات وأخبار "سوداء" ما فارقت مخيلتها يوماً.
حتى بعد خروج الجيش السوري من لبنان في 26 نيسان/أبريل 2005، بقيت أطال الله في عمرها تردد عبارة، تأخرتُ كثيراً حتى أفهم دلالتها ورمزيتها "لا تحكي، لا تحكي يا ابني ... الحيطان إلها آدان (آذان)".
ما فعلته الوالدة كان لا شك جزءا بسيطا وصغيرا جدا جدا من فعل الخوف اللامعقول، الذي كان يسكن أفئدة وأرواح السوريين حصرا، ولكنه ما عاد يفعل.
بعد الخامس عشر من آذار/مارس 2011، ثمة أشياء كثيرة قد تغيّرت، ليس أقلها أن أمي لم تعد تهمس... ولَم تعد تقول لي... "سكوت".
شارك
المزيد حول هذا الموضوع
زعماء السنّة.. على صورة "توم وجيري"!
10-Mar-17 05:05 PM
المزيد من هذا الكاتب
