في بحث سابق اهتممت فيه بمقولة تتعلق بـ"المراحل الانتقالية" حينما يتخذ منها
المستبد ذريعة لتبرير استبداده وتسويغ فشله، ذلك أن المستبد في خطابه يستخدم مقولات كثيرة مثل "عنق الزجاجة" و"أننا في فترة حرجة" و"مقبلون على منعطف تاريخي" و"على الجميع أن يتحمل" و"أن ينتظروا حتى يأتي الرخاء على أيديه" أي المستبد ذاته، رغم أنه في حقيقة الأمر لا يساعد إلا شبكات استبداده ومؤسسات فساده، يلوك بلسانه هذه المقولات في خطابه ويتحرك ضمن هذا الإطار لا يتعداه ولا يتخطاه.
تبرير الفشل وتسويغ عدم الإنجاز والمطالبة بالتحمل والمرور بالمرحلة الانتقالية كلها عبارات تكرس شأن المستبد وتصوره، أن المرحلة الانتقالية هي مرحلة لا تنتهي، يأتي مستبد بعد مستبد ومن ذات المنظومة فيتحدث عن هذه المرحلة وعن هذا المنعطف التاريخي وكأن الزجاجة كلها عنق، وكأن المرحلة الانتقالية مستمرة حتى يوم القيامة، ولا بأس أن يتحدث عن تراكم المشاكل من قبله سنوات وأنه ورث تركة ثقيلة، واستلم البلد وهي مثقلة بالأزمات وحالتها تحت الصفر، ولا بأس من اتهام المستبد الذي سبقه هذا شأن المستبد، كلمتان يطالب بهما الشعب دائما؛ الانتظار، والتحمل وجوقة بعض علماء الدين تعزف على مقولة الصبر، لتدبج قوله وتبرر فشله.
كان هذا أمرا يعبر فيه المستبد عن تلك الرؤية في خطابات متباعدة، لكن
المنقلب وفي سنوات قليلة صار مستخدما كل ذلك في خطاب شبه يومي، وصار حديثه "هتتحملوا.. أيوه هتتحملوا"، و"هتجوعوا.. أيوه هتجوعوا" مبشرا إياهم أنه ليس في طاقته أن يعطيهم شيئا، أو يحسن من أحوالهم "مش قادر أديك... مش مش عايز"، وفي ذات الوقت يبشرهم بمزيد من الفقر والإفقار، وأن الأمور الصعبة لم تأت بعد، وأننا في حرب وجودية، وتلك الحرب الوجودية تحتاج منهم التحمل والانتظار، كلمات مفتاحية لكل مستبد يجعل من المراحل الانتقالية جزءا من استبداده وحركة خطابه، وفي كل مرة سيخرج علينا المستبد بمساعدة جوقته الإعلامية يعزف ذات المعزوفة ويعد الناس بالرخاء، فمرة يأتي الرخاء بعد سنتين، ومرة يأتي بعد ربع قرن، يقول هذا مستهينا بشعبه، مستخفا بآلامه، وفي ذات الوقت يطالبه بالمزيد من "فكة" و"جنيهات قليلة"، و"تبرعوا" و"صبحوا"، ينظر إلى ما في أيديهم ـ إن كان في أيديهم شيئاـ يعتصرهم ويمتك (يمصمص) عظامهم على قول بن خلدون، فإذا ما صرخ أحدهم قائلا (آآآه) من الآلم ترجمه المستبد إلى نعم ، وأن ذلك دليلا على أن الشعب كله في حالة تأييد وتدعيم، وفي حالة وعي كما يريدها، هؤلاء وفق تأويله لم يقولوا "لا".
أما من قال "لا" فأجهزة أمنه الفاشية له بالمرصاد، تطارده في كل مكان، تصفيه جسديا ولا يواربون في الاعلان عن ذلك ببجاحة وتناحة، يعتقل من أراد بتهمة بسيطة إنه "إخوان" أو "ظننته إخوانيا"، يقتل بدم بارد، يفعل كل أمر ما من شأنه أن يوطد لكرسيه على قاعدة من استراتيجيتي الترويع والتفزيع، والتجويع وعقلية القطيع، إنها لعبة المستبد قال لهم منذ البداية وهو وزير للدفاع "اصبروا بعض الوقت حتى لا ينزل الجيش إلى الشارع"، و"اصبروا في طوابير الانتخابات"، لم يكن ذلك إلا غطاء استطاع بمخاتلات رهيبة أن يفعل كل ما حذر منه أو نبه إليه، استعجل رد فعل الناس ودبج مؤامرته مستغلا غضبا واسعا وقام بانقلابه وخلع عليه لفظ الثورة.
وبعد الانقلاب وصفه البعض من زبانيته بأنه مرشح الضرورة، وردا على الذي قالوا أين برنامجه الانتخابي الرئاسي مستهزأ وساخرا "مش كنتم تقولوا لي"، و"إحنا متفقناش على كده"، و"كنتوا قولولي قبل ما أسيب الجيش".. كل تلك الكلمات كانت تقول أنه لا يعد الشعب بشيء إلا بمزيد من الفقر: "الشيطان يعدكم الفقر".
ثم طفق بعد ذلك يتحدث بعد انتخابه "اصبروا وتحملوا سنتين" ثم تحملوا "ستة أشهر" ثم "تحملوا سنة أخرى"، "لم يعد هناك على الانتخابات القادمة إلا سنة اختاروا من شئتم"، بعد انتخاب الرئيس محمد مرسي برز هؤلاء يدشنون "مرسي ميتر" بعد خمس دقائق من انتخابه، وبات الأمر بالنسبة للمنقلب الفاشي يطلب متوالية الانتظار ووفقا لخبرة سابقيه فإنه لن ينقطع إلا مطالبة بمزيد من الانتظار ومزيد من التحمل، إنها لعبة المستبد، الناس ترى أمام أعينها أن مساحات الفساد تزداد وأن مساحات الفشل تتكرر وتتراكم ومع ذلك فلا حساب، وهو يغدق على سدنة طغيانه وكرسيه، أما نصيب عموم الشعب فقط، انتظروا وتحملوا، ويعدهم أنهم سيتمكنون من اختيار من شاءوا، ومشيئته هي في الاستمرار، لو كان يريد لهذا الشعب اختيار لخلى بينه وبين اختياراته وتركه يمارس إرادته، ولكنه يتحدث عن الحرية وهو يلوح بسلاحه، يا سادة انتظروا إلى أبد الآبدين، فالمستبد لا يتنازل عن كرسيه إلا بالموت، حتى مسألة الموت عند بعض المستبدين تجعله يبحث في دفاتره عن الوريث الذي يحفظه بعد مماته ولا تفتح ملفاته إنه الخالد المخلد.
إنها متوالية الانتظار ومتراكمة التحمل من لم يعجبه فليرحل، إنها مقولة المستبد الجديدة حينما ينابذه شعبه بالرحيل فيطالب شعبه كله بالرحيل، وتخرج منظومة إعلام إفكه، "غوروا"، هكذا يفعل المستبد، كان ذلك أمرا يمكن أن نتندر به لكن "بشار الجزار" أعطى المثال والنموذج القبيح، حينما هجر أكثر من نصف شعبه وعاث فسادا وقتلا ومحاصرة للنصف الآخر حيث قتل ما يقارب المليون منه، وأحدث عملية تهجير داخلية وعمليات تهجير خارجية، سيبقى هو وليرحل الشعب، معادلة المستبد الجديدة حتى لو فني شعبه فهو باق تساعده على ذلك دول في الإقليم ودول أخرى على المستوى الدولي، وقوى داخلية كان من المفروض أن تحمي شعبها فوجهت أسلحتها إلى الانسان والبنيان ومجمل الكيان، هدموه بلا رحمة، قتلوه بلا معقب وبدم بارد، وبدت المعادلة "فليرحل الشعب".
وها هو المستبد يحاول من كل طريق، يقدم نفسه على أنه الاستقرار، وأنه علامة على حقيقة الاستمرار مهما استخدم من قوة وبطش وطغيان، يمن عليهم بذلك الاستقرار، فلسان حاله ومقاله يبديان "احمدوا ربنا" لم نضربكم ببراميل متفجرة، ولم نقتلكم بسيارات مفخخة "الحمد لله إحنا مش زي سوريا والعراق"، ويعقب على ذلك بتلك المقولة التي أعلنها المخلوع مبارك "أنا أو الفوضى"، خلع مبارك ثم أتت الفوضى بشكل منظم وممنهج من مجلس عسكري مهمته صناعة الفرقة والفوضى، وأتى السيسي يتحدث عن ثورة يناير بأنها لم تكن إلا حال فوضى، وأن القيام على عمل آخر على منواله هو جالب للفوضى الأشد، بل ناقض للدولة، مرة أخرى يلعب المستبد لعبته، ومن هذه المقدمات، كونوا مع المستبد، كونوا مع الاستقرار، كونوا مع الاستمرار، كونوا مع الدولة حتى لو قتلتكم ولم تبق منكم أحدا، رحيل المستبد كما يؤكده هو، في رحيله اختفاء للدولة، هكذا يقول وهكذا ينذر، الأمر الأفضل إذا لا يتحمل إلا مزيد من الانتظار، متوالية المستبد في الانتظار، إلى متى تنتظرون وهو يقتلكم ويسجنكم ويخنقكم ويحرقكم ؟ بل هو في النهاية إن قلتم له ارحل سيقول لكم أنتم من ترحلون، أ فبعد ذلك يجوز الانتظار؟!.