يبدو لنا مع تطور الأحداث أننا نصل مرة أخرى في مصر إلى تبرير استمرارية حالة الطوارئ، إنها عقلية الاستثناء حينما تحاول أن تجعل منه قاعدة بأمور تتعلق بارادة الشعوب، وممارسة حرياتها والمطالبة بحقوقها، إن هؤلاء الذين يتحدثون أن هذا الشعب غير مؤهل للديمقراطية هم ذاتهم الذين يبررون حالة الطوارئ في كل مرة ويؤكدون أن هذه الحالة هي الأصل، وكل ما عداها يشكل استثناء غير قابل للتكرار، يريدون من كل ذلك أن يمنعوا أي تغيير ويمنعوا أدنى تأثير.
لعلكم تتذكرون هذا الكلام من أحد كهنة الاستبداد ذلك الإعلامي العجوز الذي كان يتحدث عن "مرشح الضرورة"، اخترع هذا الوصف في محاولته الدؤوبة لدعم كل المستبدين وتجميل صورتهم القبيحة، هذا كان عمله وحرفته، لقبه البعض بـ"الأستاذ" وتبدو لنا أستاذيته في فنه في دعم الاستبداد وتوطينه، حينما أراد أن يبرر لهذا المنقلب انقلابه، فضلا عن ترشحه للرئاسة في انتخابات هزلية، جعل من ذلك أقوى حالة للضرورة في ذاتها، وللضرورة أحكام وفق تقديراتهم لخدمة المستبد، ولكنها ضرورة زائفة احترفها هذا الكاهن للدفاع عن العسكر وتبرير حكمهم طيلة عدد من السنين، فقد صار خبيرا بشؤون استبداد العسكر، وحقيقة الأمر أن مرشح الضرورة لم يكن إلا بداية لأفعال وسياسات من بعد ذلك تلتئم مع هذا الاسم بكل دلالته الخطيرة في ممارسة حكم وأحكام الاستثناء وصولا إلى حال الطوارئ.
إنها قصة الطوارئ في مصر، قصة الاستثناء الذي تحول إلى قاعدة، تحول هؤلاء جميعا من المستبد وسدنته، ومن الطاغية وبطانته أن يبرروا لذلك من كل طريق، ويصنعون حالة الضرورة الزائفة وفق خيالهم المريض ليبرروا فرعونية مستبدهم وسياساته الغاشمة وأفعاله القبيحة الظالمة، إنهم في كل يوم يئدون كل معاني السياسة وممارساتها وكل الأمور التي تتعلق بقيم الشعوب وإراداتها، يتلمسون رغبة المستبد ويتخذون من هواه قانونا ومن رغباته أمرا ومن نظرته فعلا وسياسة، ومن أحلامه وأوهامه استراتيجية ومستقبل، يتلمسون كل ما يتعلق بتأليه ذلك المستبد الذي في عرفهم لا ينطق عن الهوى، وما يفعل في الحقيقة غير الهوى، إنها المفارقة التي يحركها هؤلاء ويجعلون من الاستثناء القاعدة.
وفي كل ذلك يحترفون قلب الأمور، فالانقلاب في عرفهم ثورة، والثورة في تقديرهم عورة، أو مغامرة وربما مؤامرة، وسياسات البطش حزم وقوة، وتكميم الأفواه هو حالة مطلوبة درأ للفوضى، كل ذلك يتحرك ضمن جوقة من الصفاقة والمطبلين يحاولون تحسين القبيح، وتقبيح الحسن، ينالون من الشرفاء ويسمونهم خونة، يخونون الوطن ويبيعون أرضه وموارده ويسمون أنفسهم بالوطنيين، يتحدثون ليل نهار عن تحيا مصر، وهم يخنقونها ويخنقون أبناءها، ويتحدثون عن رضى الشعب وهم يغتصبون إرادته، وعن روح الشعب وحياته وهم يزهقونها.
هذا هو فعل الطوارئ، انقلاب العسكر صار ضرورة طارئة في عرف هؤلاء، وترشح السيسي كان مرشحا للضرورة بما تتطلبه من قبول ورضوخ، وقوانين يصدرها بالجملة وقرارات من دون برلمان، وإن أتى برلمان مرر تلك القوانين من دون أدنى نقاش أو مراجعة، كل هذه الحالات حالة طوارئ من غير إعلان لطوارئ، أليس ما يقوم به السيسي المنقلب من سياسات يومية ومن قرارات وهمية ومن أعمال إجرامية ليست إلا حالة طوارئ؟!، أليس هؤلاء الذين أدخلوا المعتقلات بتلفيقات واضحة حتى تعدى عددهم الستين ألفا إلا حالة طوارئ؟! .
وعن أجهزة الأمن وهي أجهزة ترويع وتفزيع، حدث ولا حرج، يقتلون بالشبهة، ويطلقون الرصاص استخفافا، ويعذبون فيقتلون تحت التعذيب ويجعلوا من السجون مقابر تشيع كل يوم عددا من دون أن يتحرك لهم جفن، يختطفون الناس من بيوتهم ومن سكنهم ومن أماكن عملهم، بل ومن الشوارع ولا يعرف لهم عنوانا ولا يعلم لهم مكانا، والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، يقتلون من أرادوا ثم يصدرون بيانات تتسم بكل بجاحة وتناحة تردد تلك العبارة في بياناتهم الأمنية، "أن أجهزة أمنية قد صفت مجموعة إرهابية"، هكذا يدعون ويفعلون كل ذلك تحت عين وبصر أهل القانون وأهل القضاء ومن سموا أنفسهم بأهل حقوق الإنسان، يحدث كل ذلك تحت نظر هؤلاء ولا يحرك الكثير منهم ساكنا، أليس كل ذلك بحالة طوارئ؟!
هنا يبدو لنا أن هذا التقصير الذي يشمل الأجهزة الأمنية في التعامل مع قضايا بعينها وفي الإهمال المتعمد وضمن استراتيجية تقوم على تأمين المستبد وكرسيه كأولوية أمنية، يهتمون بأمر السلطان ولا يهتمون بأمر الإنسان، يهتمون بأمر المنقلب ولا يهتمون بأمر الأوطان، يتحركون في خدمة المستبد ويتغافلون عن أمن المجتمع، ما بال هؤلاء يفعلون كل ذلك في تغول واضح لأمر المستبد على كل ما عداه، ستكون النتيجة اختفاء الأمن حيث يجب أن يوجد ووجوده حيث يجب أن يختفي، وتضخم أفعاله في مساحات تؤمن سلطة الطاغية، وإغفال وتقصير أمني في مساحات وساحات تتعلق بأمن المجتمع ومؤسساته، إن هذا التغول الأمني والتقصير في شأن الأمن المجتمعي إنما يشكل أكبر خطيئة ترتكب في شأن هذا الوطن وتعبر عن إحالة المستبد مسؤولية وتقصيرا على غيره، المستبد لا يخطئ رغم كل الكوارث التي أتى بها، والمصائب اليومية التي يرتكبها والأعمال الإجرامية التي صارت طقوسا له على مدار اليوم.
ومع كل هذا فإنه يستغل الأحداث وقد أعلن حالة الطوارئ في سيناء الحبيبة يمدها كل ثلاثة أشهر مدعيا محاربته للإرهاب، فإذا بهؤلاء لا يضربون الجنود فقط في سيناء، بل يتجهون إلى الدلتا والوجه البحري والساحل ليقوموا بضربات غادرة من غير أي مواجهات فاعلة، ومن المؤسف أن يسمي الطاغية هذا نجاحا، ويؤكد أن التضييق عليهم في سيناء أجبرهم على الضرب في عمق مصر، أتصدقون أن هذا يقال وأن هناك البعض من بين سدنته يردده وبين أهل مصر من يصدقه!.
إن حال الطوارئ التي فرضها المنقلب ليست إلا استغلالا منه لتحقيق المزيد من سياسات استبداده ومسالك طغيانه، وتخرج ترسانة التقييد من قوانين جاهزة تمنع الكلام وتفرض كل عناصر الرضوخ والإذعان، وتلفق كل التهم والتجريم لأي فعل احتجاجي، وما ذلك إلا استكمال لاستراتيجيات طغيانية وقوانين منع التظاهر التي لا تستند إلى أي اساس دستوري، حتى وفق هذا الدستور الذي صاغه بمعرفته واصطنعه على عينه، وقوانين الكيانات الإرهابية الذي يتهم الناس بالشبهة، فماذا تبقى؟!، إلا أن يجرم كل شئ حتى لا يكتب على صفحات التواصل الاجتماعي أو يعبر عن رأي أو احتجاج، وأظن أن ذلك الحكم المشبوه على المحامي محمد رمضان بعشر سنوات ومنعه من التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي 5 سنوات إنما يشكل صفحات من القهر وتراكمها، إنها صناعة الاستبداد وصناعة الاستثناء، وتصنيع الضرورة الزائفة في ظل حالة انقلابية تستدعي سياسات بوليسية ضمن حكم طغمة فاشية عسكرية، هذه قصة الطوارئ تكتب أقبح فصولها في كتاب الاستبداد الغاشم.