كثيرة هي مشاهد الاشتغال والاستغفال والاستحمار التي استعرضتها الدولة العميقة على خشبة مسرح مسرحية لعبة الشعب خلال الست سنوات الماضية منذ الثورة وحتى الانقلاب وما بعده، وقد حاولنا استقصاء هذه المشاهد رصدا ومتابعة وتحليلا وتفسيرا في إطار عنوان جامع أسميناه "مسرحية لعبة الشعب" ووصل عدد مشاهدها حتى إلى أكثر من ستين مشهدا متنوعا على مستويات مختلفة، نحاول في هذا المقال رصد معالم مشهد تأخرنا في رصده وتحليله في زحمة المشاهد التي لا تنتهي، ذلك المشهد يتعلق بالفصل المسرحي الخاص الذي أعده تلامذة الفرعون وأعوانه أمام الشعب والمعروف بـ"محاكمة مبارك".
البداية من موقعة الجمل 2 فبراير 2011، ذلك اليوم الذي تحددت فيه الإجابة عن الأسئلة الأساسية، لماذا نزل الجيش للشارع يوم 28 يناير؟ وإلى أي طرف ينحاز للنظام أم للشعب؟ دخل بلطجية النظام بجمالهم وأحصنتهم وأسلحتهم على مرأى ومسمع من قوات الجيش ودبابته المنتشرة حول كل مداخل ميدان التحرير فضلا عن كافة مداخل ومخارج القاهرة الكبرى وغيرها من المحافظات.
نجح الثوار في صد الهجوم البدائي الذي شنه النظام باستخدام أدوات تنتمي لقرون مضت في محاولته الأخيرة لقمع الانتفاضة الشعبية بعد انهيار ذراعه الأمني في مدة قياسية لم تكن متوقعة على الإطلاق، وكانت الدلالة واضحة ومختصر مفادها أن نزول الجيش لم يكن لحماية المتظاهرين بل لحماية النظام لأطول فترة ممكنة على أمل انتهاء الانتفاضة وإعادة ترتيب المشهد على وضعه القديم، وهي حالة أقرب لنزوله في فترات سابقة بجانب النظام سواء في أحداث انتفاضة الخبر 18-19 يناير 1977 أو أحداث الأمن المركزي في 25 فبراير 1986.
فشلت موقعة الجمل فاضطر الجنرالات للتفكير في طريقة أخرى للحفاظ على النظام من خلال تغيير الرأس وليس الإطاحة بها كما ظن البعض، فكانت مسرحية التنحي التي أعلنها مدير المخابرات العامة في 11 فبراير 2011، فتم تكليف جنرالات المجلس العسكرى بإدارة شؤون البلاد ثم غادر مبارك وعائلته بطائرة خاصة إلى إحدى فيلاته المهداة من سمسار الغاز المصري حسين سالم بشرم الشيخ.
كان لهذا المشهد دلالات متعددة لا سيما ما تعلق منها بالموقف من رمز النظام مبارك، فعلى عكس الحالة التونسية التي اضطر فيها زين العابدين بن علي للمغادرة خارج البلاد لعدم إحراج جنرالات الجيش، منح جنرالات مصر مبارك الأمان لتغيير محل الإقامة داخل البلاد من مقر الحكم في القاهرة إلى مقر الاستجمام في شرم الشيخ.
لم تكن هناك نية لدى العسكريين في محاكمة رمز النظام الذي يعتبرونه زميلهم بحكم الانتماء لمؤسسة الجيش رغم مقتل ما يقارب من 850 متظاهرا وإصابة آلاف في محافظات مصر المختلفة إبان أحداث الثورة خلال الـ18 يوما. ولعل هذا ما يفسر مماطلتهم –لشهرين تقريبا - في الاستجابة للضغوط الشعبية لمحاكمة مبارك، وحينما صدر قرار حبسه ونجليه علاء وجمال في أبريل 2011 احتال الجنرالات على ذلك القرار بدعوى تدهور صحته وحاجته للرعاية الصحية فتقرر تنفيذ حبسه الاحتياطي بمستشفى شرم الشيخ الدولي مؤقتا لحين توقيع الكشف الطبي عليه بمعرفة الطب الشرعي، كما تم نقله فيما بعد –بقرار من المحكمة أغسطس 2011 - إلى مستشفى المركز الطبي العالمي التابع للقوات المسلحة بطريق الإسماعيلية لحين إعادة تجهيز مستشفى سجن طرة بالكامل تمهيدا لاستقباله وكأنهم يستقبلون عريسا جديدا وليس فرعونا دمر البلاد وأذل العباد على مدار أكثر من ثلاثة عقود.
ظلت عملية المماطلة والاحتيال في إطار هذه المسرحية وصولا إلى تشكيل الدائرة القضائية التي ستحاكم الفرعون بعناية وإعداد لائحة اتهام هزلية وضم أكبر القضايا إلى بعضها البعض دون رابط "قتل المتظاهرين وتصدير الغاز لإسرائيل"، إضافة إلى إغراق ساحة المحكمة بآلاف الأوراق بهدف التشويش ليصل عددها إلى 160 ألف ورقة، الأمر الذي حول مسار القضية من بحث وتقصي اتهامات محددة معروفة بعشرات ومئات الشواهد الواضحة إلى بحث فى أرشيفات مئات الآلاف من الأوراق التي لا يربطها رابط دلالي ولا يجمعها جامع اشتقاقي سوى اشتراكها في الأحرف العربية المكتوبة بطريقة قانونية.
هكذا استمرت المسرحية وصولا إلى جلسة النطق بالحكم (2 يونيو 2011 ) التي شهدت أكبر عمليتين للاحتيال في هذا السياق، أحدهما تم بشكل مباشر ويختص ببراءة مبارك ووزيره "حسين فهمي" فضلا عن سمسار السلاح حسين سالم في قضية تصدير الغاز إلى إسرائيل، والثانية بطريقة غير مباشرة تمت بقدر عال من الحرفية وتختص بمعاقبة مبارك ووزير داخليته بالسجن المؤبد بتهمة غريبة للغاية "عدم القيام بواجب حماية المتظاهرين" إضافة إلى تبرئة 6 من مساعدي "العادلي".
ابتعدت المحكمة عن التهمة الأصلية المتعلقة بإصدار مبارك أوامر بقتل المتظاهرين والتي تضم بالبديهة وزير الداخلية ومساعديه باعتبارهم متلقين للأوامر إضافة إلى رتب أخرى وسيطة ودنيا من ضباط الشرطة والأمن المركزي باعتبارهم منفذين، الأمر الذي يعني محاكمة عدد كبير للغاية بشكل هرمي من أعلى إلى أسفل بما يجعل المنظومة كلها عرضة للانهيار والتفكك وربما توسع الأمر ليشمل مؤسسات مركزية أخرى كالجيش والأمن الوطني والمخابرات العامة والحربية.. إلخ.
ابتعدت المحكمة عن تلك التهمة الأصلية وراحت تبتكر تهمة أخرى عبقرية في ذاتها ومضامينها سواء بالنسبة للمتهمين أو المشهد السياسي بشكل عام "تهمة عدم القيام بواجب حماية المتظاهرين"، وتكمن عبقرية هذه التهمة في افتراضها الضمني بأن فاعل القتل ليس الجهاز الأمني مطلقا استنادا على تصوير المشهد كما لو كان مشاجرة بين مجموعة من المواطنين وبعضهم أو مجموعة من المواطنين وقوى خارجية ومن ثم وجب على الرئيس أن يصدر تعليمات للجهاز الأمني بالتدخل لحماية هؤلاء المواطنين من بعضهم أو طرد هذه القوى الخارجية الشريرة التي تعبث بأمن الوطن والمواطنين.
وفق هذه التهمة أعيد تشكيل الواقع وتكييفه بشكل دراماتيكي للغاية من خلال عملية احتيالية قائمة على نفي وجود الموجود وإثبات حضور الغائب. وفقا لهذه العملية استبعد وجود الشرطة تماما من الميادين وافترض وجودها في الأقسام أو ملازمة أفرادها للمنازل، كما استدعي للمشهد كائنات غير مرئية أسندت إليها أعمال مرئية ملموسة أودت بحياة مئات البشر وآلاف المصابين.
لم تكتف المحكمة باختراع تهمة هزلية كهذه، بل قامت بما هو أشد هزلا، وذلك عن طريق عقاب بعض المتهمين وتبرئة الآخرين تمهيدا لنسف القضية برمتها في مراحل التقاضي الأخرى، وهو ما حدث بالفعل في 13 يناير 2013 حيث قضت محكمة النقض بإلغاء جميع الأحكام الصادرة بالبراءة والإدانة في القضيتين وإعادة محاكمة جميع المتهمين من جديد، وذلك بعد قبولها طعن النيابة العامة وطعن الدفاع عن مبارك والعادلي.
لم يكن غريبا بعد كل هذا المشاهد المحكمة على مستوى الإعداد والصياغة والتنفيذ أن تخرج الأحكام القضائية النهائية بتبرئة الفرعون وجنوده من أشهر جرائمه في مارس 2017 وأن يعود سالما غانما إلى منزله في حراسة نظامه الذي مازل يعطيه التحية العسكرية، كما لم يكن غريبا أيضا أن يخرج كل رموز النظام من أعلاهم إلى أدناهم من كل القضايا المرفوعة عليهم خروج الشعرة من العجين، فتمت تبرئة حبيب العادلي ومساعديه وصولا إلى أصغر الضباط المتهمين في قضايا قتل المتظاهرين كما تم تبرئة أولاد مبارك وحاشيته أمثال أحمد نظيف رئيس الوزراء المخلوع، زكريا عزمي رئيس الديوان، صفوت الشريف، رئيس مجلس الشورى، سامح فهمي، وزير البترول، أنس الفقي وزير الإعلام، أحمد المغربي وزير الإسكان، زهير جرانة وزير السياحة، إضافة أحمد شفيق وأحمد عز وغيرهم من رموز النظام وأقطابه السياسية والأمنية والاقتصادية.
هكذا أعد سيناريو مسرحية محاكمة الفرعون وأحبكت تفاصيله ومشاهده داخل دهاليز الدولة العميقة على مدار ست سنوات، وهكذا تم عرضها على الشعب. يظنون أن الشعب ساذج بينما يظنهم الشعب أنهم أكثر سذاجة. ستمر الأيام حتما وستدور وسيثبت التاريخ يوما أن البقاء كان للأنقى.