ما زالت حركات "
الإسلام السياسي" تقلب النظر في رؤى ومسارات فكرية متعددة، تمكنها من التكيف مع تحديات الواقع وإكراهاته، والتي أفضت إلى تضييق الخناق عليها، ومحاصرة وجودها، ما نتج عنه تراجع حضورها، وضعف فاعليتها.
ووفقا لباحثين فإن تلك الحركات لم تجمد عبر مسيرتها على رؤى بعينها، بل انفتحت على خيارات أخرى أتاحتها ظروف المرحلة، فأعلنت في وقت مبكر عن قبولها بالخيار الديمقراطي، وانخرطت في لعبته وحققت من خلاله مكاسب مشهودة، لكن نجاحاتها كانت تواجه في غالب الأحوال بإجهاض ذلك الخيار وإفشاله.
وأعلنت تلك الحركات في مراحل لاحقة، قبولها بالدولة المدنية لأن "الأصول الإسلامية لا تتنافى في شيء مع مفهوم الدولة المدنية، بل تؤسس لها على مختلف المستويات" طبقا للقيادي الإسلامي المغربي، رئيس الوزراء الحالي، سعد الدين العثماني.
وبحسب ملاحظة الباحث السعودي، باسم العطاس فإن ما يمكن استخلاصه من النماذج المتعددة التي وصلت فيها حركات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، أن ثمة قواسم مشتركة في الظروف والمناخ كانت سائدة في تلك الدول قبل وصول تلك الحركات.
وأوضح العطاس في حديثه لـ"
عربي21" طبيعة تلك الظروف بأنها تتمثل في الحملات الترهيبية المتواصلة ضد كل ما هو إسلامي إضافة إلى قوة وحجم القوى المنافسة وتجذرها في مفاصل الدولة".
وطبقا للعطاس فإن تلك العوامل الضاغطة حدت من طموح حركات الإسلام السياسي في سعيها لتطبيق الشريعة الإسلامية، مكتفية بمادة "الإسلام هو دين الدولة"، للحفاظ ولو على جزء يسير من هويتها.
وأضاف: "في ظل الحملات المتزايدة ضد حركات الإسلام السياسي، ودعاوى التيارات السياسية الأخرى المتوجسة خيفة من إقصاء الإسلاميين لها، سارعت تلك الحركات إلى الإعلان عن تبنيها لخيار الدولة المدنية الديمقراطية".
ورأى العطاس أن
الحركات الإسلامية التي وصلت إلى سدة الحكم قبل الانقلاب عليها، ووأد نجاحاتها، لم تتمكن من تطبيق الشريعة الإسلامية لأسباب قد يعذرون عليها. في إشارة منه لعدم امتلاكها زمام السلطة امتلاكا حقيقيا.
من جانبه رأى الباحث والناشط التونسي، جلال العوني أن محاولة استقراء مآلات حركات الإسلام السياسي، وأين سترسو مراكبها، تتطلب معرفة الظروف الاجتماعية والسياسية لنشأة تلك الحركات وتشكلها، لفهم جذورها ورؤاها المؤسسة.
وأشار إلى أن حركات الإسلام السياسي، حين ظهورها طرحت نفسها بديلا عن باقي القوى الحاكمة والمعارضة من التيارات الليبرالية واليسارية، وقد نهلت من الموروث الفقهي السني السلفي المتمثل في المدرسة الحنبلية، ثم تراث ابن تيمية، مرورا بمحمد بن عبد الوهاب، ثم حديثا المودودي وسيد قطب.
وتابع العوني لـ"
عربي21" قائلا: لقد مثَّلا، خاصة سيد قطب حجر الزاوية في بلورة نظرية توحيدية جديدة أفرزت مفاهيم ثانوية كمفاهيم "الحاكمية والإيمان والكفر والجاهلية والولاء والبراء.. واصفا تلك المفاهيم بأنها مثلث الأدوات الفعلية التي سيعول عليها كل من الإسلام السياسي عموما، وفروعه الجهادية القتالية" على حد قوله.
ولاحظ العوني أنه بعد تجربة الربيع العربي، والتي أخذ فيها الإسلام
الإخواني بزمام الأمور في بعض البلدان كتونس ومصر أن الترسانة الفكرية للإسلام السياسي عاجزة عن مواجهة الواقع المحلي، كما الواقع الدولي، وعاجزة عن تسيير دواليب الحكم".
ووفقا للناشط التونسي الناقد بشدة لحركات الإسلام السياسي، فإن القيادات الفكرية والسياسية، فيما يبدو أدركت فشلها وعدم تمكنها من استغلال الفرصة الذهبية، التي أتاحها لهم الربيع العربي.
وجوابا عن سؤال: ما هي توقعاته لمآلات حركات الإسلام السياسي؟ قال العوني "نهاية تلك الحركات في صورتها التقليدية باتت واضحة، وليس أمامها من مخرج إلا بمراجعة أصولها الفكرية والنظرية حتى يواكبوا التطور الثقافي والحضاري للعالم من حولنا".
وأضاف "يمكن للإسلام كدين أن يواكب العصر، وأن يتعايش مع قيم الحداثة ومنظومة حقوق الإنسان، إذا ما عوّل المنظرون على المخزون الفكري العقلاني (المعتزلي والرشدي مثلا) من تراثنا، كما الفكر المقاصدي للشاطبي مع ما توصلت إليه الإنسانية من معارف في علوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية".
ووصف العوني المأزق الذي "نعيشه وتعيشه حركات الإسلام السياسي بالمأزق المعرفي الحضاري، طالما أن التنظير يحاول إيجاد حلول لواقع ملموس خارجي، ينهل من تراث لا علاقة له أصلا بالواقع الذي يريد معالجته، فسنظل نجتر الجراح والهزائم".
وخلص إلى القول " لا بد من وجود جرأة فكرية، تمكننا من الملائمة بين قيم الحداثة التي أصبحت اليوم كونية، وبين الخصائص الحضارية لمجتمعاتنا، لكي نخرج من المعالجات الانفعالية واليوتوبية المطروحة اليوم".
في السياق ذاته، قال الكاتب والأكاديمي الأردني، عبد الله فرج الله "إن حركات الإسلام السياسي تحولت تحولا كبيرا في المنهج وطريقة التفكير، حتى وصلت في نهاية المطاف للمطالبة بفصل الدعوي عن السياسي".
وأضاف لـ"
عربي21": وهذا ما تم فعلا في كثير من هياكل الحركات الإسلامية السياسية، في كثير من أقطارها، وارتضت منهج المشاركة الفعلية للأنظمة الحاكمة، وبالعمل تحت عباءتها، ومن خلالها، فهي بهذا انتقلت من حالة تفسيق الأنظمة في أقل حالاتها، وشبه مقاطعتها، وعدم جواز المشاركة في حكوماتها، إلى حالة المعايشة التامة معها".
ونتيجة لذلك "غابت مصطلحات كانت تعتبر ركيزة في مناهجها التربوية مثل الولاء والبراء من قاموسها التربوي" على حد قول الأكاديمي الأردني فرج الله.
وردا على سؤال: كيف ينظر إلى هذا المآل الذي وصلت إليه حركات الإسلام السياسي؟ اعتبر فرج الله هذا المآل "نتيجة طبيعية من حيث أنها استغرقها التنظير و التأطير للحاكمية والخلافة والولاء والبراء، وبقيت عقودا في إطار التنظير و التأليف والخطابة، فكل الذي تم إنجازه تقديم مادة تأصيلية ثقافية نظرية، اختلفوا فيما بينهم بشأنها".
وأبدى القيادي الإخواني الأردني السابق، فرج الله أسفه "لأن ذلك لم يتجاوز حدود التنظير، وبقي قابعا في المحاضن التربوية وصفحات الكتب، بينما كانت السنوات تمضي وحال الأمة يزداد سوء، والأوضاع تزداد تعقيدا، والتحديات أمامهم تزداد فداحة، ودوائرها تعظم خطرا أيضا".
ولفت فرج الله إلى أن ذلك كله "جعل تلك الحركات تعيد النظر في كثير من منطلقاتها، ومفردات خطابها، وظهر مؤخرا وبشكل جلي فقه المراجعات، الذي نسف أو كاد كثيرا من هياكلها السابقة، والتي حكمت واقعهم عقودا طويلة، لم يعرفوا خلالها إلا فقه الابتلاءات والمحن والصبر عليها" على حد وصفه.
ولفت فرج الله إلى أن "تحديات الواقع وخطورته نقلت تلك الحركات من إطار التنظير الحالم"، معللا وصفه له بالحالم لأنه لم يرفق ببرامج عملية فعلية تغير الواقع، واصفا الحلم التنظيري بأنه "تحطم على صخرة الواقع وتحدياته وتعقيداته".
وأضاف "فكانت المفاجأة المؤسفة أنهم رضخوا لهذا الواقع ومتطلباته، وبدؤوا بتقديم تنازلات، وللأسف غُلفت أيضا بثوب الشريعة، والمشكلة أن الخصم المقابل خداع وطماع، ويرغب في المزيد، كلما اقترب منه أصحاب الإسلام السياسي خطوة ابتعد عنهم خطوة حتى يستنزفهم في التنازلات والانسلاخ من الهوية".
وانتقد فرج الله ما أسماه "منهج التنازلات" الذي "لن يفضي لما يمكن أن يكون في صالح حركات الإسلام السياسي، بل سيزيد من تحجيمها، وإن خيل إليهم أنهم وصلوا إلى بعض المناصب والمواقع القيادية في الأنظمة الحاكمة".
وشخص فرج الله "منهج التنازلات" في ظل الأنظمة التي يغلب عليها الطابع الأمني، أنه يحقق هدفين؛ الأول: إضعاف المتنازل وإرهاقه وحصاره، والثاني: تقوية المحاصِر وإطالة أمد وجوده".
ورجح فرج الله أن يكون "التنازل للواقع والاندماج فيه هو الخيار الأسهل لحركات الإسلام السياسي، والأكثر أمنا، وهو ما تم اللجوء إليه، بقرار استراتيجي للأسف وليس تكتيكيا، وهنا تكمن خطورة هذه المآلات" بحسب عبارته.
لكن لا يمكن بحال التقليل من حجم الهجمة الشرسة المستهدفة لوجود حركات الإسلام السياسي، والتي أضحت هدفا أساسيا لضربات قوى الثورة المضادة، بعد شيطنتها واستعداء بعض الدول والقوى الخارجية لمواجهتها بشراسة لا هوادة فيها كمنظمات إرهابية متطرفة.