في مقالة سابقة وعدت بتسليط الضوء على
تركيا
ودورها في الأحداث الأخيرة التي تعيشها
سوريا، وكنت قد انتهيت إلى أن الولايات
المتحدة ووكلائها في المنطقة نجحوا في التلاعب بمفهوم الجهاد وتوظيفه للزج بآلاف
الشباب المتحمس دينيا في حروب بالوكالة خدمة لمصالحها، بما أن هذا يعد من الأهداف
الثابتة والقصوى للسياسات الأمنية والعسكرية والخارجية الأمريكية، واستشهدت بما
جرى في العديد من المناطق في العالم، منها ما سمي في حينه "الجهاد
الأفغاني" الذي كان في الحقيقة استراتيجية عسكرية أمنية أمريكية لإضعاف
الاتحاد السوفييتي آنذاك، نفذتها الولايات المتحدة بمساعدة وكلائها في العالم
العربي، وهو نفسه ما جرى بالأمس القريب في سوريا حيث تم الزج بآلاف الشباب المسلم
للمحرقة السورية بين سنوات 2011 و2016، منهم العديد من المغاربة الذين ذهبوا ضحية
هذا التحشيد الأعمى، وقد كان لتركيا
دور رئيس على المستوى اللوجيستيكي والميداني
كما أوضحت سابقا، وسامح الله العديد من علماء الشرع الذين تسرعوا في إصدار فتاوي
الجهاد في سوريا، ما سوغ لأعداد كبيرة من
الشباب الإنخراط في معركة تدار من طرف جهات دولية وبأجندات معقدة لو علم علماء
الشرع بمقاصدها لما أصدروا فتاويهم.
أمام ما يجري الآن وحيث إن الموضوع السوري
يتم ترويجه بقوة ليتصدر المشهد السياسي والإعلامي حتى كاد أن يغطي على المجازر
المهولة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني من طرف مجرمي الحرب الصهاينة، فإنه صار من
الواجب إخضاعه لميزان التحليل والنقد.
كل ذلك مع التذكير ببعض العناصر المنهجية
فيما يخص القضية الفلسطينية وقضية الحرية والديمقراطية ومناهضة الاستبداد.
فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية..
فلسطين هي البوصلة الحقيقية في الصراع
الدائر اليوم بين التمدن والتوحش وبين الحق والباطل، وفي قلبها معركة طوفان الأقصى
التي أعادت للقضية الفلسطينية حضورها الحقيقي في الوجدان الإنساني وتمثلاته
المؤسساتية على الصعيد الدولي، ورغم الأثمان الباهظة التي يدفعها الشعب الفلسطيني،
فلم يسبق أن عاشت القضية الفلسطينية هذا الزخم الذي تعيشه اليوم وهذا التعاطف
العالمي الذي يعم وجدان معظم شعوب الأرض.
خلال هذه المعركة اتخذ حزب الله اللبناني
قرارا بالإسناد العسكري للفلسطينيين في معركتهم غير المتكافئة ضد التوحش الصهيوني
المدعوم بلاحدود من طرف الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، وقدم تضحيات جسام ذات
أثر بالغ على الأرض، ولا يمكنني كمراقب موضوعي أن أتجاهل آلاف الشهداء من مقاتلي
حزب الله اللبناني وأعضائه يضاف اليهم إخوانهم من جبهات المقاومة الأخرى الذين
دفعوا دماءهم ودماء أبنائهم وأهاليهم فداء ونصرة لفلسطين وإسنادا لغزة، وضحوا
بقادتهم التاريخيين تصديقا لما ينادون به منذ نشأتهم من أن قبلتهم هي القدس، وعلى
رأسهم الشهيد حسن نصر الله وغيره من القادة السياسيين والعسكريين، ومعلوم أن حزب
الله ما كان يمكن أن يقوم بمعركة الإسناد هاته لولا الدعم الكبير والمستمر للنظام
السوري ومن ورائه إيران، باعتباره نقطة ارتكاز أساسية للإمداد العسكري..
فلسطين هي البوصلة الحقيقية في الصراع الدائر اليوم بين التمدن والتوحش وبين الحق والباطل، وفي قلبها معركة طوفان الأقصى التي أعادت للقضية الفلسطينية حضورها الحقيقي في الوجدان الإنساني وتمثلاته المؤسساتية على الصعيد الدولي، ورغم الأثمان الباهظة التي يدفعها الشعب الفلسطيني، فلم يسبق أن عاشت القضية الفلسطينية هذا الزخم الذي تعيشه اليوم وهذا التعاطف العالمي الذي يعم وجدان معظم شعوب الأرض.
بالمقابل قدمت تركيا دعما سياسيا ملحوظا
تمثل في العديد من الخطب ذات الحمولة العاطفية للرئيس أردوغان، مع استقبال قادة
المقاومة وعلى رأسهم الشهيد إسماعيل هنية واستقبال الرئيس محمود عباس الذي خطب في
البرلمان، واحتضنت عددا من الفعاليات الشعبية لمساندة القضية الفلسطينية، كما
أفسحت المجال أمام منظمات الإغاثة الإنسانية لجمع المعونات التي بقي معظمها مكدسا
في معبر رفح للأسف الشديد.
لكن استمرت علاقات تركيا بإسرائيل في
المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية بشكل قوي، ولم تتأثر أبدا بواقع
طوفان الأقصى، ولا بجريمة الإبادة الجماعية التي فضحتها جنوب إفريقيا أمام العدالة
الدولية، وهو ما كان محل احتجاج قوي من طرف عدد من الأحزاب والفعاليات التركية من
مختلف التيارات.
فيما يتعلق بموضوع الحرية والثورة..
كاتب هذه السطور يعتبر نظام بشار الأسد من
الأنظمة الاستبدادية الموجودة في العالم العربي، وهو مع جميع التحركات الشعبية
والنضالات السلمية التي تؤدي إلى إقامة نظام سياسي ديمقراطي يستجيب لتطلعات الشعب
السوري في الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، كما يؤمن بأن الحرية والديمقراطية قيم عظيمة، والنضال من أجلها أعز ما يطلب، خصوصا إذا أدت إلى أنظمة مساندة للقضية الفلسطينية.
انطلاقا من ذلك تثور مجموعة من التساؤلات
حول مدى حضور فكرة الديمقراطية والحرية لدى من يقومون بالتحركات العسكرية الأخيرة،
والتي يصفونها بـ "الفتوحات" وهو مصطلح له دلالاته الواضحة في التاريخ
الإسلامي.
ربما السؤال الأبرز الذي يتبادر أمام كل
متابعي الشأن السوري، يتصل بـشخص أحمد الشرع المكنى بـ أبو محمد الجولاني عضو تنظيم الدولة
"داعش" سابقا، والممثل الرسمي لتنظيم القاعدة بسوريا، ومؤسس جبهة النصرة
التي تحولت إلى جبهة فتح الشام ثم جبهة تحرير الشام والتي تقود هذا الهجوم حاليا،
تؤطره قيم الحرية والديموقراطية، والذي كان قد أعلن في وقت سابق تخليه عن الفكر
المتطرف ونأى بنفسه عن القاعدة وفروعها.
والسؤال الأهم والأخطر من وجهة نظري هو:
ماذا ستستفيد القضية الفلسطينية من هجوم أبو محمد الجولاني على حلب وحماة وغيرها
وما موقعها في تفكيره السياسي؟ وماهي مآلات هذا التحرك الأخير وماهي غاياته
القريبة والبعيدة؟ وهل من الحكمة والعقل القيام بهذه العملية بينما لا يزال
الاحتلال الصهيوني ينفذ جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزة؟
والحقيقة أن ربط الثورة السورية بشخص
الجولاني دون الأخذ بعين الاعتبار تعقيدات المعارضة السورية وتفرعاتها، فضلا عن
حجم الكارثة السورية وضخامة عدد اللاجئين والمهجرين السوريين عن ديارهم، إذ أننا
نتحدث عن أكثر من نصف الشعب السوري يعيش في بلدان اللجوء، قد يأخذنا أيضا إلى
خلاصات مغلوطة، لذلك فإن الرأي عندي أن نتبين المشهد لجهة تعبيره ليس فقط لغالبية
الشعب السوري وإنما عن تمظهراته السياسية التي يمكن أن تؤول إليها الأمور.
طبعا في مثل هذه المفاصل التاريخية قد يكون
من الصعب الإمساك بالحقيقة على الأرض، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار بعض
التوجسات التاريخية، لنترك موقف الجولاني التكفيري من نظام الأسد ومن الأنظمة
السياسية الحديثة جانبا، هل حينما كان الجولاني ينفذ "غزواته" ضد
الفصائل الأخرى ويسقطها فصيلا تلو الآخر من أجل السيطرة على الأرض، هل كان يناضل
من أجل الحرية والديمقراطية أم كان ينفذ مخططا للاستيلاء على السلطة عبر السيطرة
على الأرض؟
ماذا ستستفيد القضية الفلسطينية من هجوم أبو محمد الجولاني على حلب وحماة وغيرها وما موقعها في تفكيره السياسي؟ وماهي مآلات هذا التحرك الأخير وماهي غاياته القريبة والبعيدة؟ وهل من الحكمة والعقل القيام بهذه العملية بينما لا يزال الاحتلال الصهيوني ينفذ جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزة؟
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما أسفر عنه
الاقتتال الداخلي بين الجماعات المسلحة من أجل السيطرة على المناطق لا يقل خطورة
عما أسفرت عنه عمليات النظام البعثي المجرم ضد هذه الجماعات (أحيل هنا على المقالة
القيمة للدكتور وليد عبد الحي: "المشهد السوري من منظور النخب السياسية
العربية") هل يمكن لمن هدفه السيطرة على الأرض وتصفية المخالفين أو إخضاعهم
أن يكون حاملا لمشروع ديموقراطي؟
قول لا بد منه..
من حق الإسلامي الإصلاحي أن يعبر عن موقفه
الرافض للأنظمة الدكتاتورية في المنطقة وأن يناضل من أجل تحقيق تحول ديمقراطي
حقيقي قائم على احترام الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين وفصل السلط وقضاء مستقل
وانتخابات حرة ونزيهة، لكن لا أفهم كيف انزلق الخطاب السياسي لبعض الإسلاميين
الإصلاحيين إلى تمجيد الثورة المسلحة والابتهاج بالعنف المسلح كأسلوب للاستيلاء
على السلطة، هناك عطب كبير في العقل النظري لبعض الإسلاميين، وهناك مسؤولية
أخلاقية لبعض الأصوات القيادية التي انزلقت إلى الدعم السياسي المباشر لأسلوب
العنف المسلح كوسيلة للتغيير السياسي دون أن تنتبه إلى أنها تؤسّس لوعي سياسي جديد
قائم على نوع من "التقية السياسية" أي: إظهار وجه سلمي مدني في مواجهة
السلطة السياسية على المستوى القطري والاحتفاء بأسلوب الثورة المسلحة في أقطار
أخرى..!!وهذه مفارقة عجيبة تذكرنا بابتهاج بعض القيادات الإسلامية بالانقلاب
العسكري لعمر البشير في السودان وهو ما يتعارض نظريا مع الأدبيات المعتمدة، وقد
تابعنا المآلات الدراماتيكية لهذه التجربة، ومرة أخرى يعيد هذا العقل ارتكاب نفس
الأخطاء بتضخيم موضوع السلطة والاستيلاء عليها في التفكير والحركة دون اعتبار بالمآلات
(أحيل في هذا الإطار على المقالة القيمة للدكتور أحمد الريسوني "مستقبل
الإسلام بين الشعوب والحكـام")..
مع الأخذ بعين الاعتبار أن التجربة السورية
ربما لها طابعها الخاص والمعقد، فمظاهرات السوريين التي انطلقت في ربيع العام 2011
من مدينة درعا للمطالبة بالحرية والانتقال الديمقراطي، كانت سلمية، وأحلام
السوريين لم تكن تختلف في شيء عن أحلام باقي الشعوب العربية التي انطلقت في مختلف
دولنا العربية مطالبة بالكرامة والحرية.. لكن النظام السوري كان له رأي آخر، فقد
واجهها بالحديد والنار..مما فسح المجال للتدخلات الخارجية لمساندة الطرفين وحول
سوريا إلى ساحة حرب بالوكالة …
تركيا.. الذاكرة والطموح التوسعي..
تركيا دولة قوية على المستوى الإقليمي،
والعلاقات بين الدول تظل دائما محكومة بالمصالح الوطنية، وتتلخص هذه المصالح في
طموحات الدولة على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي والاستراتيجي، ويعتبر
مفهوم المصلحة الوطنية من أهم المفاهيم التي تعتمد عليها المدرسة الواقعية في
تحليل العلاقات بين الدول وتفسير مواقفها وسلوكها على الصعيد الخارجي، لكن المرتكز
الأساسي لتحقيق هذه المصالح يظل هو بقاء الدولة وأمنها والسعي وراء تحصيل أسباب
القوة والثروة والنمو الاقتصادي.
وتزداد طموحات الدول وسعيها نحو تحقيق
المصالح بقدر تزايد مكانتها على الصعيد الإقليمي والدولي وقدرتها على التمكين
لنفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي والاستراتيجي بشكل عام.
ولذلك نحن نريد أن نسلط الضوء على ما يجري
حاليا وفهم المصالح السياسية التي تسعى تركيا لتحقيقها من ورائها..
شيء من التاريخ...
العلاقات التركية السورية علاقات قديمة
وكانت دائما متأرجحة بين التوتر والتفاهم، دخلها العثمانيون منذ عام1516 على عهد
السلطان سليم الأول، واستمروا فيها أربعة قرون، وبعد انسحاب العثمانيين، قامت في
سوريا المملكة العربية المتحدة بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، لكنها لم تعمر
طويلاً وانتهت في سنة 1920 في معركة ميسلون، ليتم تقسيم البلاد بين الانتداب
البريطاني والفرنسي.
وبعد جلاء قوات الاستعمار في عام 1946، عرفت
البلاد حياة سياسية تعددية قصيرة تخللتها أزمات عديدة، وفي سنة 1963 قام انقلاب
عسكري بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، كان من أبرز نتائجه إلغاء التعددية
السياسية والحرية الاقتصادية وتبني شعارات حزب البعث كشعارات عامة للدولة في
التعليم والإعلام والاقتصاد..
ورغم زوال الحكم العثماني، لا تزال آثاره
المعمارية قائمة في المدن الكبرى بالخصوص، ممثلة بالقصور والحمامات والمساجد
والخانات والأسواق، كما أن عددًا من العادات والمفردات اللغوية والمأكولات التركية
أصبحت جزءًا من تراث وثقافة شعب بلاد الشام.
مع وصول حزب العدالة والتنمية، ساهمت
المواقف التي اتخذها قادته في السياسة الخارجية ونظرية تصفيرالمشاكل لداوود أوغلو
في تطوير العلاقات السورية التركية نحو التقارب والتفاهم، ولعب الساسة الأتراك دور
الوسيط بين سوريا ومختلف الحكومات الأوروبية، بل أصبحت تركيا راعية للمفاوضات
السورية الإسرائيلية غير المباشرة، خاصة بعد المبادرة العربية للسلام. كما تطورت
العلاقات الاقتصادية بين البلدين خاصة بعد توقيع اتفاق التجارة الحرة بينهما التي
دخلت حيز التنفيذ سنة 2007،بالإضافة إلى الجانب الثقافي، حيث شرع بتدريس اللغة
التركية في دمشق وحلب واللغة العربية في إستنبول وأنقرة.
وفي مارس 2011 انطلقت احتجاجات سلمية في بعض
المدن السورية كجزء من احتجاجات الربيع العربي في المنطقة، تعامل معها النظام
السوري بشراسة، خصوصا بعد فشل جميع محاولات الوساطة التي قامت بها دول وهيئات
سياسية، راهنت بعض دول الخليج مدعومة بالولايات المتحدة الأمريكية على إسقاط
النظام السوري الذي لا خلاف حول طبيعته الاستبدادية، ودعمت الجماعات المسلحة من
تنظيمات مصنفة كتنظيمات إرهابية من طرف الأمم المتحدة، وبعدما سيطرت هذه الجماعات المسلحة على حوالي 70 % وكانت على مشارف دمشق تدخلت إيران وروسيا بواسطة سلاح الجو، وكان آخر من تدخل هو
حزب الله.
العلاقات التركية السورية علاقات قديمة وكانت دائما متأرجحة بين التوتر والتفاهم، دخلها العثمانيون منذ عام1516 على عهد السلطان سليم الأول، واستمروا فيها أربعة قرون، وبعد انسحاب العثمانيين، قامت في سوريا المملكة العربية المتحدة بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، لكنها لم تعمر طويلاً وانتهت في سنة 1920 في معركة ميسلون، ليتم تقسيم البلاد بين الانتداب البريطاني والفرنسي.
نجح النظام السوري في ضمان بقائه وعاد إلى
جامعة الدول العربية، وعادت العلاقات التركية السورية مرة أخرى إلى مستوى معين من
التفاهم، ففي سنة 2022 نشرت صحيفة تركيا الرسمية 5 شروط وضعتها الحكومة السورية
لاستئناف العلاقات الدبلوماسية، على النحو التالي:
ـ عودة سيطرة الحكومة على إدلب
ـ نقل إدارة معبر باب الهوى الحدودي ومعبر كسب الجمركي إلى السلطات السورية،
ـ فتح ممر تجاري بين دمشق وجيلفيغوزو،
ـ تتمتع دمشق بالسيطرة الكاملة على ممر
النقل الاستراتيجي المعروف باسم M4،
الواقع على الخط بين حلب واللاذقية ودير الزور والحسكة في شرق سوريا،
ـ تقدم تركيا الدعم لسوريا فيما يتعلق بالعقوبات الأمريكية والأوربية.
في المقابل، كانت أنقرة تريد من دمشق التطهير الكامل لمناطق المتمردين
الأكراد(PKK/YPG) والعودة
الآمنة للاجئين والانتهاء السلس من الاندماج السياسي والعسكري بين المعارضة
والحكومة. كما تريد أن تستقبل حمص ودمشق أولى الدفعات من اللاجئين.
تعثر هذا الاتفاق لأسباب يطول شرحها، إلى أن
فوجئ الجميع بما يجري حاليا، وهو ما يحتاج إلى تركيب الصورة من أجل الفهم.
رؤية تركيا للمنطقة العربية بعد الربيع
العربي..
اشتغلت تركيا بدون كلل أو ملل من أجل التكيف
مع الربيع العربي واستثمار مخرجاته، وقد برزت الحركات الإسلامية كاختيار شعبي في
جل بلدان المنطقة، وبلغ هذا الطموح ذروته مع صعود الإخوان المسلمين إلى منصب رئاسة
الجمهورية في مصر، حيث عبر أردوغان عن حماسة كبيرة للتقارب مع مصر في ظل الحكم
الجديد وانتقل إلى السرعة القصوى في هذا الطموح عبر محاولته إيجاد موقع متقدم في
سوريا، وبالخصوص في شمالها. الشمال الذي عاصمته حلب "درة التاج
العثماني" كما يسميها الساسة الأتراك في تصريحاتهم المتكررة.
وقد تابعنا كيف فتحت تركيا حدودها لتسليح
المعارضة المدنية التي سرعان ما أصبحت عسكرية بدعم من السعودية وقطر والإمارات
والأردن والمخابرات الأمريكية (يرجى الرجوع إلى الحوار الشهير لرئيس الوزراء
القطري الأسبق حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني)، ثم تلا ذلك تدفق الشباب السلفي
الجهادي من كل الآفاق، وتمت إعادة إحياء كل مسالك توريد الجهاديين من مختلف
الجنسيات العربية والإسلامية، وأنشأت على المستوى الدولي مجموعة أصدقاء سوريا، وهي
مجموعة دولية تضم دولا غربية حليفة لإسرائيل وداعمة لها بالإضافة إلى دول عربية
سترتبط بعلاقات طبيعية مع إسرائيل فيما بعد.
في المقابل لم تتجاوز تركيا أمام القهر
والقتل والإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين مستوى الدعم
الإنساني على شاكلة أسطول الحرية والضخ الإعلامي لمواقف كلامية أو استعراضية هي
أقرب إلى رفع الحرج عن نفسها في الخارج أكثر من أي شيء آخر..
لكن ماذا تريد تركيا من دعمها للجماعات
المسلحة في سوريا؟
لقد عبرت أنقرة أكثر من مرة، عن أن مخاوفها
الرئيسية تجاه سوريا تنطلق ليس فقط من الدور الذي يقوم به حزب العمال الكردستاني
على حدودها، وإنما أيضا من حجم اللاجئين السوريين الذي أمسى يشكل هاجسا أمنيا
واقتصاديا وسياسيا للدولة التركية ولحزب العدالة والتنمية الحاكم.
وإذا كان قادة تركيا قد عبروا أكثر من مرة
عن أنهم يريدون لسوريا أن تكون موحدة ومستقرة وقادرة على استيعاب مختلف مكونات
الشعب السوري السياسية والطائفية والعرقية، فإن هناك هواجس تظهر بين الفينة
والأخرى بعضها ما جاء مؤخرا على لسان السيد دولتبهشتلي، رئيس حزب الحركة القومية
التركية وشريك الرئيس أردوغان في الحكم، خلال اجتماع لنواب حزبه بالبرلمان.
إليكم الترجمة الحرفية لكلامه: "الصدع
بهذه الحقيقة أمام الشعب تمليه علينا قضيتنا ووجداننا وسياستنا: لا يمكن أن تجد
مواطنا لا يخفق قلبه عند ذكر حلب، لأن حلب تركية مسلمة حتى النخاع (تصفيق القاعة)
ليس نحن من نقول ذلك، بل يقوله التاريخ والجغرافيا والحقيقة والأجداد وأيضا العلم
التركي الذي يرفرف فوق قلعة حلب(القاعة تهتز بالتصفيق ويقف جميع الحاضرين للتصفيق
بحماسة على هذا الكلام) لا فرق بين السوق المسقوف في إسطنبول ونظيره في حلب، ولا
بين الدعوات التي تنبعث من جامع " قوجا تبه" في أنقرة وتلك التي تصدح في
جنبات الجامع الكبير بحلب، إن كانت حلب هناك، فالقوميون الأتراك والشعب التركي هنا
يصغي بآذانه إلى دعوات التاريخ" (تصفيق النهاية).
لا بد من التذكير بأن أردوغان في ورطة
سياسية وعسكرية حقيقية بسبب الموضوع السوري فقد خسر الانتخابات الأخيرة في معظم
المدن الكبرى، وتصاعدت حدة العنصرية اتجاه العرب والسوريين خصوصا من طرف الشعب
التركي مما دفع بالمعارضة إلى تحويل هذا الموضوع إلى ورقة رابحة في الانتخابات وهو
ما ترجم بخسارة المدن الكبرى من طرف اردوغان.
ما يجب الانتباه إليه هنا أن أردوغان وفريقه السياسي يدعم أمنيا وعسكريا
الحركات المسلحة في سوريا من أجل إقرار الديمقراطية في سوريا وفق المعلن رسميا،
وهذا عمل سيمكنه من التحكم في القوى الجديدة على الأقل بعد إنهاء المهمة، حيث
لازالت الذاكرة التاريخية المرتبطة بمرحلة "الخلافة العثمانية" حاضرة،
ولذلك فإن هدف ضم الشمال السوري إلى تركيا سيظل هاجسا قائما لدى البعض، مع الأخذ
بعين الاعتبار التصريحات السالفة الذكر لبرلمانيي حزب الشعب.
وبالعودة إلى الظروف التي فرضت على إسرائيل
توقيع اتفاق وقف إطلاق النار (الهش) مع حزب الله دون أن تتمكن من تحقيق أهدافها
الحقيقية، فيجب أن نتذكر أن الأزمة السورية كانت سابقة لطوفان الأقصى، وكذلك كانت
سابقا للعدوان الأخير على لبنان، وإن كانت عمليات المعارضة السورية المسلحة تأتي
زمنيا بعد أيام قليلة من انتهاء أعنف جولة من المواجهات بين حزب الله والاحتلال..
وهذا من شأنه أن يضعنا أمام مشهد شديد البؤس فعلا: هذا احتلال استيطاني بغيض يقتل
الفلسطينيين في مجازر لم يعرف لها التاريخ السياسي الحديث والمعاصر مثيلا، وذاك استبداد
سياسي استأسد على شعبه بالتحالف مع دول أجنبية بما مكنه من تهجير أكثر من نصف شعبه..
لقد عجز العرب والعالم أيضا في مساعدة
السوريين على الوصول إلى حلول سياسية تمكنهم من التعايش السلمي والتداول على
السلطة، ويبدو الآن أن هذا العجز قد بلغ مداه، مما مكن القوى التي تمتلك رؤية
جاهزة للتعبير عنها فيما نراه حاليا، وهو ليس حلا نهائياً ولا مستقرا، ولكنه على
الأقل سيمكن هذه الملايين اللاجئة من العودة إلى ديارها والعيش فيها بأمان، في
غياب رؤية عربية موحدة..
وفي اعتقادي أن الموقع الاستراتيجي لسوريا
وأهميته بالنسبة لكافة القوى الدولية المتنافسة على قيادة العالم والتحكم في
توجيهه، سيجعل المستقبل القريب حابل بالكثير من المفاجآت.. فلنتابع..